ما جرى في الأراضي الفلسطينية المحتلة على مدى الأيام الماضية يعد مؤشراً خطيراً على تطورات جديدة من نوع آخر. فلعل جل ما يتمنى أن يراه شارون، وأعداء الحق الفلسطيني أن تسود الفوضى ويعم التناحر، ويتطور الاقتتال الدموي بين الفلسطينيين وتتحول الأراضي الفلسطينية إلى "حارة كل مين إيدوا إلو". وما جرى ويجري الآن دليل على أن المسائل تتجه نحو هذا المنحى، انعكاساً لاحتقانات فلسطينية- فلسطينية، وترجمة لحالة الشلل التي تعيشها القيادة الفلسطينية التي اختزلت كل نضالات الشعب الفلسطيني ودمائه إلى غرفة في رام الله.
لقد تم الاعتداء الأسبوع الماضي على عضو المجلس التشريعي الفلسطيني ووزير الإعلام السابق في حكومة أبو مازن السيد نبيل عمرو بالرصاص وأصيب في رجليه، ذلك لأن عمرو ممن تجرؤوا على نقد القيادة وتحميلها جزءاً من مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع وتدهورها. وكان منزل عمرو قد تعرض لوابل من رصاص الكلاشينكوف العام الماضي في محاولة لإسكاته عن انتقاد "الختيار"، ولكن يبدو أن نبيل عمرو أبى أن يكون شاهد زور على تدهور حالة شعبه أمام عينيه، ورفض أن يكون شيطاناً أخرس وقد خوله الشعب الفلسطيني أن يكون صوتاً لهم مطالباً بحقوقهم وإن كان أمام سلطان جائر.
قبل نبيل عمرو، كان أبو مازن قد قدم استقالته للسيد أبو عمار مفضلا الصدق أمام شعبه على بريق الكرسي الذي لا يخوله حتى على فصل موظف في وزارة شؤون العاملين.
وقبل نبيل عمرو وأبو مازن، كان محمد دحلان- المسؤول الأمني السابق- الذي اتهمه من يختلف معه على أنه عميل إسرائيلي تارة، وعميل أميركي وربما بريطاني تارة أخرى، وكل ذنب دحلان أنه كانت لديه الجرأة لمخالفة "الختيار" لما يراه متناقضاً مع مصالح أبناء شعبه ومصيرهم. وقبلهم كان سري نسيبة، بروفيسور جامعة القدس الذي تعرض للضرب على أيدي "الفوضجية" والرعاع عدة مرات، وتعرض للسجن على أيدي الصهاينة مرات أكثر، لأنه كان جريئاً شجاعاً في واقعيته والتزامه بقضية شعبه. وقبل هؤلاء وأولئك، كان التخوين والتعنيف جزاء من يتجرأ على نقد عرفات. فالحالة التي تعيشها الساحة الفلسطينية الآن هي مسألة ديمقراطية بالدرجة الأولى، ومن يجرؤ على نقد عرفات سيكون مصيره كمصير سابقيه ممن ذكرناهم أعلاه، وربما أسوأ. ومن يسكت فقد ينجو، وقد يعيش بحبوحة، وبل وربما يمنحه "الرئيس" عرفات منصباً وسلطة.
لا جدل ولا خلاف على أن ما يجري على الساحة الفلسطينية هذه الأيام خطير ومحزن في آن واحد، والأسى أن الحالة الفلسطينية هذه تتزامن مع عزلة إسرائيلية دولية. فقد أدانت محكمة العدل الدولية قبل أيام إسرائيل لبنائها الجدار العازل، وأقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم إطلاق النار على نبيل عمرو قراراً دولياً بإدانة إسرائيل لبناء الجدار بنتيجة مئة وخمسين صوتاً مقابل عشرة أصوات وامتناع ستة. وقبل أيام قامت أزمة حادة بين نيوزيلندا وإسرائيل بعد اعتقال ثلاثة من جواسيس الموساد، رفضت على إثرها نيوزيلندا زيارة الرئيس الإسرائيلي، كما رفضت فرنسا استقبال شارون نتيجة تصريحاته المطالبة ليهود فرنسا بالهجرة السريعة نحو إسرائيل.
هذا الجو العالمي لم يكن بالإمكان استثماره والحالة الفلسطينية على حالها الذي ينذر بالفوضى وحكم الرعاع، والمسؤول الأول والأخير عنها- برأيي- هو السيد ياسر عرفات.