القضاة العراقيون الذين سيتخذون قراراً بشأن مصير صدّام حسين باتت أمامهم الآن مهمة أعقد وأصعب. فهؤلاء في عيون الجمهور ليسوا فقط من الشعب العراقي، بل من شعوب العالم كله؛ والقرار الذي يتخذونه سيكون عرضة للانتقاد وللمديح مهما تكن ماهيته. ومن غير الممكن أنهم لا يدركون، كما أفاد استطلاع حديث للرأي، أن 41 في المئة من العراقيين يريدون إطلاق سراح صدّام وأن 45 في المئة منهم يريدون إعدامه. وهؤلاء القضاة يدركون أيضاً الوجود الأميركي العسكري والسياسي الهائل في بلدهم، كما يدركون الحقيقة المملة التي مفادها أن صدّام محتجز لدى حراس أميركيين؛ ومن المؤكد أن هؤلاء الحراس على الأقل لن يطلقوا سراحه. وعلى رغم ما سبق وإضافةً إليه، من المؤكد أن القضاة العراقيين يدركون أن مستقبلهم، ليس فقط السياسي بل والمادي أيضاً، غير واضح ولا مؤكد. فماذا إذا حدث أن الانتخابات القادمة جرفت إلى السلطة قوى سياسية مقتنعة بأن القضاة ارتكبوا الخيانة بإصدارهم حكم الإعدام على "البطل القومي الكبير" صدّام حسين؟
مهما حمل المستقبل معه، فإن من المنتظر إصدار حكم وإنزال عقاب بحق صدّام وأحد عشر من أتباعه الموالين الساديين. وعندما ينظر المرء إلى طريقة معاملة الأشرار والقادة المهزومين (المتمردين) المعتقلين، سيدهشه تنوع العقوبات المفروضة، التي صار أقساها وأقذرها في ذمة الماضي. لكن هناك عقوبات أخرى لا تستوجب الموت. نابليون بونابرت كان مسؤولاً عن عدد لا حصر له من الحروب العدوانية وعن تنصيب ملوك أجانب بلا شعبية لكي يحكموا البلدان التي فتحها، وهاتان حالتان أدتا إلى وقوع مذابح وانتفاضات وعمليات قمع، أي إلى موت وتعذيب وتهجير مئات الألوف من البشر وإلى إحداث دمار مادي هائل. وعلى رغم ذلك قرّر قادة "الحلف الأكبر"، عندما استسلم نابليون في عام 1814، أن الحل الأنسب هو نفيه إلى جزيرة إلبا. ذلك أنه تم على مدى الربع السابق من ذلك القرن تنفيذ الكثير جداً من عمليات إعدام القادة السياسيين على الملأ بقطع الرؤوس أو الخنق بالطوق الحديدي، أو رمياً بالرصاص الذي تطلقه فرق الإعدام. وعندما هرب نابليون من سجنه على تلك الجزيرة، عاد إلى فرنسا وجمع من جديد مؤيديه المتحمسين وتحدّى الواقع الراهن، ثم تعرض لهزيمة قاسية في معركة واترلو في عام 1815. لكن الحلفاء آثروا على رغم ذلك ألاّ يفرضوا عليه عقوبة الموت. وبدلاً من ذلك، تم نقل الإمبراطور السابق إلى جزيرة القديسة هيلانة التي كانت مستعمرة بريطانية نائية متوغلة في جنوب المحيط الأطلسي، وعليها قضى نابليون بقية سنوات عمره في السجن حتى توفي. وكانت الغاية السياسية التي تحققت آنذاك، أي في المرة الثانية، هي أن نابليون لن يعود وأنه إضافة إلى ذلك لم يبق في وسعه على الإطلاق أن يطلب الموت شهيداً. (ربما أن الرئيس بوش تأسر اهتمامه حقيقة أن ذلك السجن البريطاني ما زال موجوداً هناك ينتظر نزيله التالي).
إن فكرة تفادي منح مكانة الشهادة لعدو مهزوم هي فكرة لم يلعبها أحد بطريقة أفضل من طريقة الملك الإنجليزي الماكر هنري السابع الذي اعتلى العرش في عام 1485، إذ أدرك أول ملك من سلالة تيودورو أن حكمه كان محفوفاً بالمخاطر. ذلك أن إنجلترا كانت في حالة حرب أهلية ومحاولات انقلابية كبرى وخطيرة بتشجيع من الحكومات الأجنبية وبتحريض من الأقطاب المناوئين لسلالة تيودور. وحدثت أول انتفاضة من هذا النوع تحت زعامة لامبرت سيمنل الاسمية لكنها تعرضت لهزيمة قاسية. وضغط مستشارو الملك هنري السابع لإنزال عقوبة الإعدام الأقسى، لكن الملك الماكر لعب اللعبة بطريقة مختلفة، وفُرضت على سيمنل عقوبة القيام بأعمال السخرة فقضى بقية حياته في تقشير حبات البطاطس في المطابخ الملكية، وهذا ما جعله أضحوكة للناس وحرمه تماماً من كل استحقاقات المنزلة الأرستقراطية (عموماً هذه ليست فكرة سيئة، على رغم أن المرء يشك في أن هذا سيكون مصير صدّام).
والآن هناك أشخاص كالصحفي أمير طاهري، الذين يناقشون احتمال خضوع صدّام لمحاكمة وفقاً للشريعة الإسلامية. لكن من المؤكد أن هذا خيار خطير وغير جدير بالثقة، بحسب اعتراف طاهري. فوفقاً للتأويل الأشد صرامة، ليس هناك اعتراف بأن السجن عقوبة. فهناك قاض واحد فقط، ولا وجود لهيئة المحلفين ولا وجود للاستئناف على الحكم. وإذا كان مقدّراً أن القاضي سيجد صدّام حسين مذنباً ارتكب خيانة الثقة العامة أو القتل العمد أو عاث فساداً في الأرض (وهو مصطلح واسع من شأنه أن يشتمل على الفظاعات)، فإن العقوبة ستكون الإعدام بقطع الرأس. ولو أن "الجلاد صاحب المقام الرفيع" موجود الآن لوافق على ذلك واستحسنه، لكن هل ستوافق عليه أغلبية مواطني عالم اليوم، هذا ناهيك عن مليار مسلم؟ فعلى رغم أن إدارة بوش تدافع بحماس بالغ عن عقوبة الإعدام كعقاب إلا أنها ستجد قطع الرأس أمراً من الصعب قبوله. ولذا فإن العقوبة الأفضل ستكون ربما تقشير البطاطس.
وربما أن السابقة الأكثر ترجيحاً هي محاولة إجراء محاكمة تحاكي أكبر محاكمات معنية بجرائم الحرب في الق