منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق عام1991، وانتهاء عصر الحرب الباردة الذي استمر ما يزيد على أربعة عقود من الزمان، و مؤسسة الأمن القومي الأميركية تواصل البحث عن نظرية عمل جديدة- بدلا من تلك النظرية التي كانت سائدة إبان الحرب الباردة- كي تفسر الطريقة التي يعمل بها العالم الحالي الذي يبدو ظاهرياً في حالة من الفوضى العارمة، وذلك بعد أن انتهى نظام الكتلتين العالميتين الشرقية والغربية، وانتهى الصراع الذي كان قائماً بينهما. والسؤال هنا هو: ولكن ما الذي حل محل ذلك النظام القديم؟
في كتابه: خريطة البنتاجون الجديدة: الحرب والسلام في القرن الحادي والعشرين، يحاول المؤلف توماس بارنيت، كبير المحللين العسكريين في كلية الحرب البحرية الأميركية تقديم الإجابة على هذا السؤال المحوري. وهو يقوم بذلك من خلال عرض عدد كبير من ملخصات المحاضرات التي قام بإلقائها في الكلية على مدار الأعوام القليلة الماضية. وهو يركز بشكل خاص على المحاضرات التي ألقاها بعد وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي يقول عنها إنها قد مثلت نقطة فاصلة في التاريخ الأميركي الحديث. والجدير بالذكر هنا أن تلك المحاضرات لم تكن ضمن المحاضرات المقدمة لطلبة الكلية البحرية ولا ضمن منهاجها الدراسي، ولكنها محاضرات قام المؤلف بإلقائها على نخبة مختارة من كبار المسؤولين العسكريين والمدنيين، وعلى بعض صناع السياسة البارزين في الولايات المتحدة الأميركية. والأفكار التي يوردها في تلك المحاضرات، تشكل في مجموعها نهجاً متميزاً عن ذلك الذي اتبعه غيره من المثقفين في نطاق محاولتهم تقديم إجابة على السؤال المذكور أعلاه.
فهذا النهج يتميز بشموله لأنه يغطي ظاهرة العولمة برمتها وبما تنطوي عليه من أبعاد اقتصادية وسياسية وثقافية، وهو ما يتيح لنا بالتالي- نحن القراء- زاوية رؤية أكثر اتساعاً يمكننا أن نلقي عبرها نظرة شاملة على ما يدور في العالم، كما يمكننا أيضاً معرفة الفارق بين طبيعة الحرب والسلام في القرن الماضي وبين طبيعتها في قرننا الحالي. وبالإضافة إلى ملخصات المحاضرات التي قدمها، فإن المؤلف يقوم أيضاً بالبناء على أعمال مؤلفين سابقين مثل توماس فريدمان وصموئيل هنتينغتون وفرانسيس فوكوياما. بيد أنه لا يكتفي بالبناء على أعمال هؤلاء المثقفين فقط بل يقوم بالعودة إلى الماضي كي يتمكن من دراسة تاريخ الاستراتيجية الأميركية منذ بداية تأسيسها وتتبع تطورها والتنبؤ بما ستكون عليه في المستقبل. وهو في هذا السياق يوضح الحدود الجغرافية التي يمكن للقوات الأميركية أن تصل إليها في المستقبل، كما يضع الخطوط العريضة للدور الفريد الذي يمكن لأميركا بشكل عام أن تضطلع به، بل الذي يجب أن تضطلع به في الحقيقة لأنه ما من أحد غيرها يستطيع أن يقوم بذلك حسبما يقول. والدور الذي يتحدث عنه المؤلف يتمثل في التأسيس للاستقرار الدولي، ومعالجة المشكلات المحتدمة فيه حالياً، وفتح طاقة من الأمل يحتاجها العالم في هذه المرحلة الحرجة والمحفوفة بعدم اليقين. وفيما يتعلق بالإرهاب والحرب التي تشنها الولايات المتحدة عليه، يكتب بارنيت قائلا: إن الإرهاب ومعه العولمة قد أنهيا فعلياً نموذج الحرب الذي كانت القوى العظمى تقوم بشنها ضد الغير كما عرفه العالم خلال فترة الأربعمائة عام السابقة. ويقول"بارنيت" إن أخطر التهديدات التي ستواجه أمن الولايات المتحدة بل والأمن العالمي خلال المرحلة القادمة هو ذلك التهديد الذي ستمثله الفجوة القائمة والتي تتسع بشكل مستمر بين ما يطلق عليه منظومة الحضارة الغربية، وبين منظومة الدول والمناطق التي تضم دول أميركا اللاتينية التي تغلب عليها الأصول الهندية، ودول الكاريبي، والدول الأفريقية جنوب الصحراء والشرق الأوسط، وآسيا الوسطى، والكثير من دول جنوب غرب آسيا.
فالتهديد الذي تمثله منظومة هذه الدول ينبع من حقيقة أنها لم تندمج بعد في لب العولمة. وإلى أن يحدث هذا الاندماج، فإن تلك الدول ستستمر كمصدر من مصادر تهديد الأمن العالمي. ويتناول بارنيت باعتباره خبيراً عسكرياً موضوعاً آخر وهو موضوع إعادة هيكلة القوات المسلحة الأميركية. فهو يقترح تقسيم تلك القوات إلى أجزاء مستقلة عن بعضها بعضاً: جزء يكون عبارة عن (قوة ضرب سريع)، تركز بشكل أساسي على قمع الدول المعادية والكيانات غير الحكومية كالمنظمات الإرهابية مثلا التي تمثل تهديداً للأمن القومي الأميركي. أما الجزء الآخر من تلك القوات فسوف يركز على الشؤون الإدارية ، ويتولى مسؤولية سد الفجوة القائمة بين المنظومة الغربية المتقدمة وبين منظومة الدول المتخلفة، والأخذ بيد تلك الدول ومساعدتها على الاندماج في منظومة العولمة. ويبذل بارنيت في كتابه جهداً كبيراً في محاولة نقض فكرة أن اضطلاع أميركا بهذا الدور كفيل بتحويلها إلى شرطي دولي إلى قوة إمبراطورية. وهو يحاول أن يقنعنا بفكرة أخرى وهي أن تلك السياسة تعكس حقيقة أن الولايات المتحدة هي المنبع وهي النموذج الذي يحتذي للعولمة. وهو يقول في هذا السياق: إننا - يقصد