في العام 1784 كتب الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم قائلا: إن أفضل ميزة لعلوم الرياضيات، تتفوق بها على العلوم الأخلاقية، هي أن علوم الرياضيات تشتمل على أفكار واضحة، قاطعة ومحددة دائماً. ومضى هيوم إلى القول إن الدائرة مثلا كمفهوم، لا يمكن أن تعني شيئاً آخر، عدا شكل الدائرة الذي ندركه هندسياً. أما بالنسبة للعلوم الأخلاقية- التي كانت تشمل فيما تشمل في القرن الثامن عشر، دراسة الذهن البشري والمجتمع والإجابة عن الأسئلة ذات الصلة بتحديد الخطأ والصواب- فليس ثمة مجال لذلك الوضوح والتحديد الدقيق، الذي تتسم به العلوم الرياضية. واستطرد هيوم ليقول كذلك إن الالتباس أو الغموض، قد تسرب رويداً رويداً، إلى نصوص العلوم الأخلاقية، وإلى الطريقة التي نفكر بها في تلك العلوم، ونصوغ بها منطقنا فيها.
كان ذلك مقطعاً قصيراً من كتاب ديفيد هيوم الذي يحمل عنوان "بحث في الفهم الإنساني". وبذلك كان هيوم قد انضم إلى تلك المجموعة الكبيرة من المفكرين والفلاسفة الغربيين، الذين كرسوا قسطاً كبيراً من فكرهم ومواهبهم وقدراتهم الذهنية، لمحاولة الإمساك، ولو لحظة واحدة، بميزة التحديد والوضوح التي تتميز بها العلوم التطبيقية، واستعارتها ما أمكنت الاستعارة، إلى ميدان العلوم النظرية والدراسات الإنسانية. والواقع أن هذا الشوق العارم لإضفاء طابع التحديد والوضوح على العلوم الإنسانية، والتطلع إلى صبغ تلك العلوم بصبغة منطقية صارمة، بحيث تسري القوانين العامة للرياضيات على العلوم الإنسانية والسلوك البشري، على نحو أو آخر، هما اللذان أدخلا البشرية في سلسلة لا أول لها ولا آخر، من العلوم الأساسية والفرعية الممتدة من علم دراسة القدرات الذهنية، وصولا إلى علم الاقتصاد وغيره. ويمتد هذا الشوق حتى قرننا الحالي، إلى هذا الكتاب الذي نتناوله بهذا العرض.
الفرضية الأساسية التي يقيم عليها فيليب بول حجته في كتابه هذا، هي أن علوم الرياضيات والفيزياء والإحصاء، قد بلغت حداً من التطور في عصرنا الحالي، يمكن فيه استعارة وتطبيق مفاهيمها العامة حول سلوك النظائر وغيرها من الظواهر الفيزيائية والرياضية، على السلوك البشري، سواء كان ذلك السلوك متعلقاً بنشاطنا التنافسي المالي في أسواق البورصة، أم كان ذا صلة بموقف معين، نلهث فيه بحثاً عن المخارج والأبواب المنجية من حريق ما، اشتعل أثناء وجودنا داخل مكان معين، وليكن ملعباً لكرة القدم مثلا. ليس ذلك فحسب، بل إن كتلة المجتمع البشري قد أصبحت الآن من الميكانيكية، إلى درجة جعلتها أقرب لأن تكون مرادفاً اجتماعياً للذرات المكونة للمواد والعناصر الفيزيائية. وعلى حد قول الكاتب، فإن الأفراد- أو لنقل ذرات هذا المجتمع- في استعارة للغة الفيزيائية، يتفاعلون مع بعضهم بعضاً من خلال القوانين ذاتها، التي تحكم علاقات الذرات الفيزيائية، أي عبر قانون الجاذبية والتنافر.
لا يدفع هذا الاعتقاد الكاتب إلى القول إن المجتمع البشري قد فقد بعض خواصه الأساسية، مثل الشعور بالذاتية والإرادة وغيرها. فلا تزال مثل هذه الخواص موجودة، إلا أنها غاصت في مكان أشبه بتلك الشخصيات التي صورها الكاتب الإنجليزي الشهير تشارلز ديكنز، في روايته "الأزمنة القاسية" أي أنه جرى امتصاص الفرد وتذويب شخصيته، داخل الماكينة الحاسبة الصناعية. وفيما لو كانت التجارب التي يعرض لها المؤلف، تتعلق بمجموعة من المشاة الذين يعبرون شارعاً ما، عبر مباني جامعة شتوتجارت الألمانية على سبيل المثال، أو بالناخبين البرازيليين، وهم ينهمكون في انتخاب حكامهم الإقليميين، أو غيرها من تجارب، فإنه يعمد لعرض أنماط وتقسيمات للسلوك الاجتماعي، يفترض أنها تمثل تلك العلاقات بين المواد والأجسام الفيزيائية، التي يدرسها الفيزيائيون. من ذلك مثلا يتحدث المؤلف عن علاقات الجاذبية والتنافر كما سبق القول آنفا، وكذلك يناقش البعد الاجتماعي لمفهوم "المرحلة المفاجئة للانتقالات" وهي المرحلة التي تحدث، عندما يذوب الماء أو يتجمد. أما تلك التجارب الاجتماعية والسياسية التي يعرض لها، فهي في رأيه تشبه إلى حد كبير أنماطاً مكافئة لها من التجارب التي تجري في مجال علم الفيزياء والعلوم الطبيعية.
فيما يبدو فإن بول محق فيما قاله. ذلك أنه لا ريب ألا يكون الناس أثناء تواجدهم خلال الاختناقات المرورية، وما شابهها من مواقف، في أصفى حالاتهم، وأكثرها تعبيراً عن تنوع شخصياتهم. ففي مثل هذه الحالات، غالباً ما يتشكل المزاج والسلوك. بالحالة التي هم عليها، وبالسيارات التي يجلسون بداخلها، وبظروف البطء والملل الذي تخلقه الاختناقات المرورية. طبيعي إذن، ألا يكون مثل هؤلاء الأفراد، على مقربة بأية حال من الأحوال، مما كان قد تطرق إليه الكاتب الإنجليزي ديكنز في روايته "الأزمنة القاسية" من خير وشر، وحب وكراهية، وغيرها من مشاعر إنسانية في مثل هذه اللحظات، التي يتحول فيها الفرد إلى مجرد رقم من كتلة الجمع. ولما كان ذلك هو الحال، فإن فرداً كهذا، يسهل التكهن بسلوكه، وقراءة حالته المزاجية والنفس