ما إن هدأ غبار قرار محكمة العدل الدولية حتى ثار غبار أحداث قطاع غزة بحيث كاد يطغى على كل ما سبقه. ويوم الأربعاء الماضي، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بأغلبية حاسمة، قرارها بدعم قرار المحكمة الدولية مما أعاد هذا الأخير إلى الواجهة. ومن هنا أهمية إنعاش الذاكرة بخصوص الحدث المتجسد بصدور حكم "لاهاي" حول الجدار الفاصل الذي تبنيه إسرائيل. فلقد جاء حكمها واضحاً وقاطعاً حيث قال إن "السور الذي تبنيه إسرائيل في الضفة الغربية هو بمثابة ضم أراضٍ، وهو عمل غير قانوني، والمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة ليست شرعية، والسور يمس بحقوق الفلسطينيين". وكما هو معروف، دعت المحكمة والجمعية العامة مجلس الأمن الدولي إلى اتخاذ إجراءات ضد بناء السور، واتخذ هذا القـرار بدعـم (14) من قضاة المحكمة من أصل (15) علماً بأن الوحيد الذي عارض القرار هو القاضي الأميركي. كما دعت المحكمة إسرائيل إلى وقف بناء السور، وإزالة المقاطع التي تم بناؤها ودفع تعويضات للفلسطينيين مضيفة أنه:"يجب وقف أعمال بناء السور في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأيضاً في منطقة القدس"... وقررت المحكمة "أن خرق القانون الدولي الذي تنفذه إسرائيل عن طريق بناء السور لا يمكن تبريره عن طريق طرح أسباب أمنية". وقد استبقت إسرائيل صدور القرار بالإعلان مسبقاً أنها لن تقبل الحكم الذي ستصدره محكمة العدل الدولية بخصوص شرعية الجدار. كما طالب "سيلفان شالوم" وزير خارجية الدولة العبرية الولايات المتحدة بتأييد موقفها ومنع صدور أي قرار من الأمم المتحدة ضدها وأضاف:"نحن نعتقد أن بمقدور إسرائيل أن تتصدى لهذه المسألة بنفسها. لا يمكن أن نقبل تدخلا خارجياً من محكمة العدل الدولية".
تنبع أهمية القرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، وكذلك قرار الهيئة العامة الأخير، من كونهما يتعديان "الجدار" بكثير بالرغم من كونهما غير ملزمين. فالقرار (242) أيضاً غير ملزم لأنه لم يصدر بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، إلا أنه بات الآن أساس الحل للنزاع العربي الإسرائيلي وفقاً لجميع الأطراف الدولية. كما أن أهمية هذين القرارين تكمن، ليس فقط في عدم شرعية بناء الجدار، بل في قرار المحكمة والهيئة العامة بأن الأراضي الفلسطينية هي أراض محتلة حسب القانون الدولي وليست أراضي متنازعاً عليها حسب المفهوم الإسرائيلي، والتي اكتسبت دعماً أميركياً في عهد إدارة "جورج بوش" الابن التي أيدت الزعم الصهيوني. وعليه، يمكن القول إن قرار كل من المحكمة الدولية والهيئة العامة وإن كانا غير ملزمين، إلا أنهما وضعا الأساس القانوني لأي حل مستقبلي للصراع العربي- الإسرائيلي.
وضوح الرفض القاطع الرسمي (واليميني) الإسرائيلي لم يحجب مواقف قوى سياسية إسرائيلية أخرى مختلفة. وعلى سبيل المثال، فإن "يوسي سريد" من كتلة "ميرتس" قال تعليقا على القرار:"إن هذه الحكومة البلهاء ارتكبت جميع الأخطاء الممكنة مع أن المسألة هي بناء جدار للدفاع عن النفس". كما صرح "يوسي بيلين" بأن "مسار الجدار يتعارض مع مصلحة إسرائيل الوطنية. إن إقامة الجدار في الأراضي الفلسطينية تتعارض مع مصلحة إسرائيل بغض النظر عن القرار الدولي". أما وجهة النظر الإسرائيلية القائلة إن بناء الجدار قد جاء لأسباب أمنية ولمنع تسلل ما تصفه إسرائيل بـ"الإرهابيين الانتحاريين" فقد تجاهلته المحكمة تماماً لأن بناءه يتم داخل أراض محتلة وليس متنازعا عليها (كما تقول إسرائيل) هدفه ضم وابتلاع أجزاء كبيرة من الضفة وليس لمنع تسلل "الانتحاريين الفلسطينيين"، وأنه لو تم بناء الجدار بمحاذاة الخط الأخضر، أي الحدود الدولية المعترف بها، لما اعترض عليه أحد. ومن جهتها، قالت صحيفة "معاريف" بتاريخ 6/7/2004 "إن انخفاض مستوى الإرهاب يعود لعمل جهاز الدفاع الناجح وليس للجدار الفاصل الذي لن يسهم شيئاً في أمن البلاد".
وكما هو متوقع، أشاد الفلسطينيون (والعرب ومعظم دول العالم) بالقرارين الدوليين مؤكدين بأن الجدار الذي تبنيه إسرائيل لعزل الضفة الغربية هو عمل غير قانوني. ولقد رحبت السلطة الفلسطينية بقرار المحكمة ووصفته بأنه نصر للفلسطينيين ولكل القوى الحرة في العالم. وكانت المجموعة العربية قد سارعت بالطلب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة الاجتماع لتطبيق رأي المحكمة. والآن بعد صدور قرار الجمعية العامة سيعرض الفلسطينيون (بعد الانتخابات الأميركية على الأرجح) الأمر على مجلس الأمن حيث مارست الولايات المتحدة العام الماضي حق النقض "الفيتو" ضد مشروع قرار كان يسعى لمنع إسرائيل من مد "الجدار" داخل الأراضي الفلسطينية بالضفة الغربية. وقال مندوب جامعة الدول العربية لدى المنظمة الدولية:"إنه يتحتم على الدول الأعضاء في مجلس الأمن ضمان قيام إسرائيل بتطبيق قرار المحكمة الدولية ووقف بناء الجدار"، معترفاً بأن المعركة في مجلس الأمن لن تكون سهلة في ضوء الفيتو الأميركي المرتقب، وقال:"سننتظر لنرى، هناك إمكانيات كثيرة للعمل وعلينا ألا ننسى بأن المحكم