على رغم مرور حوالى ثلاث سنوات، لا زالت تحكم أحوال السياسة والمجتمع في أميركا الشمالية أحداث 11 سبتمبر عام 2001 وتداعياتها، سواء على مستوى قمة النظام السياسي والصراع بين أعضاء النخبة الحاكمة والمعارضة، أو على مستوى الحياة اليومية بسبب الإجراءات الأمنية التي يتعرض لها الفرد المسافر - مواطناً كان أم لا- حتى قبل ركوب الطائرة من أجل المغادرة أم عند وصول الطائرة إلى مطار المقصد. والتنوع الوحيد بين المطارات الأوروبية ومطارات أميركا الشمالية ليس في الجوهر ولكن في الأسلوب المتبع وطريقة إخراج التساؤلات والقيود المختلفة، وقد تكون دهشة الفرد في مطارات أميركا الشمالية أكثر بعض الشيء، على أساس أن الثقافة السياسية لهذه المنطقة تقوم على ليبرالية قوية وترك أكبر قدر من الحرية والمساحة للسلوك الشخصي. فمثلاً حتى عهد قريب كان المرور بين كندا والولايات المتحدة - وهي أطول حدود مشتركة بين دولتين في العالم بأسره- يتم عن طريق إبراز رخصة القيادة فقط وذلك عند الطلب. وأكثر من ذلك فإن رخصة القيادة هذه لم تكن تحتوي على صورة فوتوغرافية، وبالتالي يسهل التزوير والتزييف وانتحال الشخصية.
ولكن المجتمع المدني في هذه المنطقة كان يفضل قبول مثل هذه المخاطر بدلاً من مخاطر أقوى في رأيه ألا وهي تدخل سلطات الدولة في حريته الشخصية.
ولكن الاستجابة لدواعي الحرية الشخصية لم تعد الهاجس الأهم في هذا المجتمع، وأصبحت الأولوية القصوى حالياً للهاجس الأمني، خاصة عندما تكون الطائرة قادمة من أحد مطارات الشرق الأوسط، التي يُنظر إليها الآن - خطأ أو صواباً- على أنها بؤرة التهديدات الأمنية. فحتى قبل مغادرة المطار، وفي الواقع بمجرد أن يسجل الراكب المتوقع أمتعته ويختار مقعده، يكون اسمه والمعلومات الأساسية عنه مدرجة في الكمبيوتر المركزي في نيويورك، وهو على استعداد لتوزيع هذه البيانات على أية أجهزة أخرى على امتداد العالم إذا كانت هناك حاجة إلى ذلك. وفي جميع الأحوال فإن تحركات هذا الفرد تصبح جزءاً من "بنك المعلومات" ومن السهل استخراجها وتتبع أثرها في أي وقت ممكن. وعلى رغم شعور طبيعي بالضيق من أن بياناتك الشخصية تكون متداولة عالمياً كلما ركبت الطائرة، إلا أن هناك نتيجة إيجابية عند وصولك وهي أنه لا يتم التدقيق في بطاقة سفرك مهما كان مظهرك عربياً أو إسلامياً، فهناك قائمة معدة مقدماً لهؤلاء الذين يجب متابعة تحركاتهم.
أما على المستوى الجماعي، فالقيود أكثر بكثير. فقد لاحظت مثلاً في مرة سابقة في باريس أن الطائرة المتجهة إلى القاهرة - رغم أنها من الشركة الفرنسية الوطنية إيرفرانس- يتم وضعها في مكان بعيد في المطار، وتخضع لحراسة أمنية مشددة. أما الوصول إلى أميركا الشمالية هذه المرة فقد كان استقبالاً غريباً فعلاً. لقد لاحظت من قبل أنه عند الخروج من الطائرة يجب إبراز بطاقة السفر والبطاقة الخاصة برقم مقعدك، وكان هذا مصدر دهشة. فبطاقة رقم المقعد تُستخدم عادة داخل الطائرة فقط للوصول إلى مقعدك، وقد يتم التخلص منها بعد ذلك. أما استخدام بطاقة السفر فقد كان مقصوراً على مرور منطقة الجوازات للخروج من المطار إلى المدينة. ولكنني لاحظت هذه المرة تطورين آخرين، أولهما أنه بمجرد الخروج من الطائرة وحتى قبل أن يتعود الراكب على المشي طبيعياً بعد طول جلوس، فإن هناك حارسي أمن مفتولي العضلات ومعهما كلبان يكشران عن أنيابهما ويشمّان كل ما في يديك وحتى ملبسك. كانت هذه مفاجأة سيئة جداً في الواقع، خاصة عندما رأيت الخوف والقلق على وجوه بعض الأطفال الصغار الذين لم يتم إعدادهم لمثل هذا "الاستقبال الحافل". وعند سؤالي المسؤول في المطار عن سبب هذا الإجراء، وهل هو خاص بالطائرة القادمة من الشرق الأوسط، أكد لي أن هذا الإجراء الخاص بالكلاب البوليسية ليس بجديد، وإنما الجديد هو مكان هذه الكلاب عند الخروج من الطائرة مباشرة، فقد كان مكانها قبل ذلك في منطقة فحص جوازات السفر واستلام الأمتعة، وأفهمني أن الهدف الرئيس كان ولا يزال هو التأكد من عدم تهريب المخدرات، ولكن من المحتمل أيضاً أن هذه الكلاب يتم تدريبها الآن على اكتشاف الأسلحة المحملة بالبارود.
أما التطور الآخر الذي لاحظته، فهو الازدياد الكبير في عدد الركاب الذين يُوجَّهون إلى القاعة الجانبية لفحص أمتعتهم بعد فتحها والتأكد من محتوياتها ببعض التفصيل. ولاحظت أيضاً أن العدد الأكبر من النسوة المحجبات يتم توجيههن إلى هذه القاعة. وقد اشتركت مع سيدة بريطانية لتوجيه نظر المسؤول إلى هذا الإجراء التعسفي والذي قد يعتبر المدافعون عن الحقوق المدنية أنه نوع من "التحرش العرقي" أو ما أستطيع أن أسميه ethnic harassment، واكتسى وجهه بالدهشة وأفهمني أن هذا التعبير ليس موجوداً في القاموس، ثم أكد لي أن جميع الركاب يعاملون بالمساواة لا فرق بين محجبة وأخرى... وحتى الآن لا زلت غير مقتنع بهذه الإجابة.