لدينا مثل في الخليج يقول:"لين طاح الجمل كثرت سكاكينه"! وهو مثل معروف في الدول العربية. ويُقصد به أنه عندما يهوي الرجل القوي تبدأ الألسن في إظهار مثالبه، ونشر سلوكياته ومواقفه السلبية، وتختفي الجوانب والمواقف الإيجابية له.
الإشكالية في العقل العربي، الذي تعوّد المجاملة المقرونة بالخوف، الخوف على المنصب والراتب والحظوة، والخوف أيضاً من "زوار الليل" والمساءلات الخفية التي تأخذه وراء الشمس، ولا يعلم أهله عنه شيئاً. هذه الإشكالية هي التي خلقت واقعاً عربياً يستلذ المداهنة والرياء والنفاق حتى إلى درجة "حطِّ" الكرامة وإلغاء الذات.
الجَمل الذي كثرت حوله السكاكين هو وزير الإعلام المصري صفوت الشريف، الذي ما إن خرج من وزارة الإعلام حتى انبرت له الألسن والأقلام شامتين به. ولقد نقلت الصحف عن منتقديه، وأولهم رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري (حسن حامد) حيث قال: إنه كان "مُتكتّف"، أي أنه لم يكن على راحته! واتصلت إحدى المسؤولات بأحد البرامج مطالبة برفع صورة (الشريف) من مهرجان الإذاعة والتلفزيون، وحدث أن قام رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون بحذف لقب وزير الإعلام منها وكتابة صفوت الشريف فقط.
ورغم اعترافنا بعدم أهليتنا للتدخل في هذه القضية -التي نعتبرها مصرية خاصة- إلا أن مدلول الحادثة هو الذي أثار الشجون لطرح التساؤلات المتعددة في هذا المقال: أولاً: نحن - كعرب- تربينا على الخوف من قول الحقيقة. رغم أن تعاليم ديننا تلزمنا بقول الحقيقة، ولو أمام سلطان جائر، كما جاء في الحديث الشريف. ذلك أن العائلة زرعت فينا الخوف الاجتماعي، وجاءت المدارس لتزرع فينا الخوف الرسمي، ثم جاء الإعلام ليكرّس الخوفين! فنحن ممنوع علينا - وعيبٌ علينا- أن نرفع صوتنا في وجه آبائنا، وإن كانوا على باطل، ويفكرون بطريقة تخالف الواقع أو المصلحة أو الأخلاق، ونحن ممنوع علينا مناقشة المدرس الفاضل - حتى لو دَرَسَ أو اطّلع أحدنا على مراجع أجنبية يمكن أن تغالط مفهوم المدرس- وعلينا "صَمُّ" ما يقوله المربي الفاضل وتدوينه في كراسة الامتحان حتى يشعر المربي بزهو انتصاره، وإن كانت في الأمر إهانة لعقلنا وعلمنا.
ونحن ممنوع علينا الاعتراف بـ"حق المرأة" فالمجتمع ذكوري، وحقوقه ذكورية، وقوانينه ذكورية، ولا مجال لمناقشة أو إيجاد خطوط وسط بين ما تريده المرأة وما يريده المجتمع الذكوري! لذا نجد التسلط الاجتماعي، والقهر العاطفي، والخوف من العار والفضيحة، ويبقى هذا الخوف حتى تقع الفضيحة وينتشر العار!
ثانياً: نحن - كعرب- علمتنا التربية نعمة أو "نقمة" المجاملة! وصرنا حتى في أدق تفاصيل الحياة لا نرضى بأي نقد سواء لسلوكياتنا أو لأعمالنا الإبداعية أو تصريحاتنا السياسية، وصرنا نجامل بعضنا بعضاً إلى درجة النفاق، ونحن ندرك أن الصحيح أو الصواب بعيدٌ جداً عن أحكامنا التي نطلقها في وجوه البعض سواء من الرسميين أو عامة الشعب، وذلك حتى لا نُنعت بـ"طول اللسان" أو الفظاظة أو قلة الأدب. وللأسف انسحبت المقولة على الأدب أيضاً، وصرنا نجامل بعضنا بعضاً في الشعر المكسور، والكتب التي لا تحمل قيماً فكرية جديدة، والبرامج التليفزيونية التي تعود بنا إلى السبعينيات بسطحيتها وغباء مذيعاتها.
ثالثاً: نحن - كعرب- نرد بكل قسوة على قول الحقيقة إن كان يمس منجزاتنا، وهذا ما جعل مؤسساتنا "تؤدلج" النقد دوماً وتجعله مديحاً دائماً حتى يرفعه المسؤول للمسؤول الأكبر. وإن كان العمل في المؤسسة متردياً ومتخلفاً، لكننا بالتركيبة "الخيانية" للضمير والمجتمع، نتدارى وراء الصحافيين الصغار الذين ندفع لهم بقلم ذهبي أو كرافه إيطالية كي "يزوِّروا" الحقائق، ويلمّعوا "منجزات" مؤسساتنا. وإن ظهر قلم شريف - وإن لم يكن ذهبياً- وكشف الحقيقة، ورنّ الهاتف الأحمر عند المسؤول، فإن كل الغضب "المُضري" يتجمع داخل أدمغتنا ونلجأ إلى أكثر من وسيلة لمحاصرة ذلك القلم، ونتهمه بالحقد والمشاكسة وعدم حب الوطن، وإشاعة زعزعة النظام.
رابعاً: ونحن – كعرب- تعوّدنا النكوص والتنكر للمسؤول بمجرد ما أن يصدر به قرار "تنكيلي". وهنا تجود قرائحنا بالمعلقات الضدّية، والكلمات الأسطورية القادحة، ونبدأ في نشر "غسيله" الذي كنا نتوارى خلفه طمعاً في ود ورضا ذاك المسؤول. ونخلع القناع الذي كنا نقابله به، بل وقد نلجأ إلى نشر مثالبه - وبكل قوة وجرأة- مستندين إلى المسؤول الجديد، الذي هو الآخر، لا يدرك حجم اللعبة، ولسوف يلاعبنا ونلاعبه بها، حتى يخرج من المكان، ثم ننبري لنلعنه أو نشتمه على الطريقة العربية.
هذا النكوص جزء من تربيتنا، ونحن نجد أنفسنا ننحني أمام المسؤول ونقدّم له القرابين، وما إن يخرج من المكان حتى ننسى أن نزوره في العيد أو العزاء، بل لا نكلّف أنفسنا توجيه "مسج" له يوم زفاف ابنه.
هذه التربية أو العقلية التي تحكمنا، هي التي تؤدي بنا إلى "صقل" السكاكين عندما يقع أحد الكبار، ونتبارى في تشريحه حتى وإن لم يكن بتلك البشاعة أو السوء في إدارته أو تعامله معنا!
هذه التر