في معظم الأحيان، تكون لدى كل من عمل في الحكومة قصّة- وهي ربما تروى من جديد هذه الأيام بوجود الجدل الدائر حول العراق- ومحورها مواجهة القرار الكبير حول أساس المعلومات التي يتبيّن أنها خاطئة. وقصتي المفضّلة يعود عهدها إلى أغسطس 1998، عندما أفادت وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه" بأن الرئيس الروسي "بوريس يلتسين" قد مات، وذلك قبل ثلاثة أيام فقط من موعد زيارة للرئيس "بيل كلينتون"
إلى موسكو.
في عام 1998، كانت أنباء موت السيد "يلتسين" لا تشكل بطبيعة الحال مفاجأة أكبر من تلك التي نجمت عن أنباء في عام 2003 قالت إن العراق يمتلك أسلحة للتدمير الشامل، إذ كانت أنباءً تطابق ما كنا نعلمه عن صحة السيّد "يلتسين" وعن عاداته، وعن معالجته السرية لأمراضه التي أصيب بها من قبل. كما لم يكن هناك أحد أصابته الحيرة حيال عدم صدور إعلان وفاته. فالكارثة المالية، التي ألمّت بروسيا قبل ذلك بعشرة أيام، أطلقت أزمة سياسية فافترضنا أن هناك عملية محمومة تجري وراء الكواليس في الكرملين لنقل السلطة الرئاسية إلى خليفة لـ"يلتسين".
وفي أثناء المؤتمرات التي انعقدت إثر ذلك عبر الهاتف، لعبت كل الوكالات الحكومية أدوارها المعتادة. والتزمت وكالة "سي آي إيه" بمصادر معلوماتها لكنها لم تشعر بالارتياح حيال رفع توصيات. وأراد مسؤولو مجلس الأمن القومي، الذين يعلمون أن السيد "كلينتون" لم يكن متلهفاً إلى زيارة موسكو، أن يلغوا الزيارة على الفور. وأصرّت وزارة الخارجية (التي أمثلها في هذه الحالة) على أننا سنبدو بمظهر مضحك إذا ألغينا اللقاء بسبب موت السيد "يلتسين"- وهو ما اكتشفنا أنه لم يحدث.
في نهاية المطاف قررنا أن على الروس أن يسمحوا لـ"ستروب تالبوت" نائب وزير الخارجية الأميركي، الذي كان في موسكو، بعقد اجتماعاتٍ ما قبل القمة وبزيارة السيد "يلتسين" في غضون 24 ساعة وإلاّ فإن الزيارة سيتم إلغاؤها. وما كان لشيء آخر غير ذلك أن يقنعنا بموت "يلتسين": فلم يكن هناك أي اتصال هاتفي ولا أي ظهور للسيد "يلتسين" على شاشة التلفزيون ولا أية شهادة من طبيب تؤكد وفاته. وفي اليوم التالي، كان السيد "يلتسين" سليماً معافى ويرحب بالسيد "تالبوت" في مكتبه؛ وبعد يومين كان "بيل كلينتون" على متن الطائرة متوجهاً إلى موسكو.
وعندما انتهت تلك الزيارة، اتصلتُ هاتفياً بمحلل لدى "سي آي إيه" كان هو مَن نقل البلاغ الكاذب. وتحدث المحلل بلهجة اعتذارية نوعاً ما، وقال "عليك أن تتفهم. لقد فاتت انتباهنا الاختبارات النووية الهندية والباكتسانية في الربيع الماضي، ونحن نتعرض لضغوط كثيرة كي لا يفوت انتباهنا أي شيء آخر".
إن بعض الدروس التي تقدمها هذه القصة هي نفس الدروس التي برزت من الجدل حول العراق، ومفادها أن المعلومات الاستخباراتية الحساسة هي في أكثر الأحيان أضعف من أن تكون مرشداً للقرارات المهمة؛ فإذا كانت المعلومات تطابق ما نصدّقه مسبقاً أو ما نريد أن نصدّقه، فإنها تخضع لقدر ضئيل من التدقيق. وعلى رغم ذلك، تحمل "تجربة الموت الوشيك" للسيد "يلتسين" في 1998 درساً آخر من المؤسف أنه لم يكن جزءاً من الجدل الراهن. فعندما تكون لدى صنّاع السياسة معلومات ناقصة تتعلق بمشكلة خطيرة (وهذا ما يحدث في كل الأحيان تقريباً)، فماذا ينبغي عليهم أن يفعلوا؟ الجواب، في الماضي كما في الوقت الحاضر، هو رمي عبء الإثبات على الطرف الآخر. فلو كنا قد أنكرنا ذلك الاجتماع مع السيد "يلستين"، لكاد يكون ذلك إثباتاً لوفاته. لكننا كنا سنخفي أمر زيارة "كلينتون" أيضاً. فعدم تعاون الروس معنا في هذه المسألة- وليس معلوماتنا الاستخباراتية الرديئة- هو ما كان من شأنه ألاّ يترك أمامنا أية خيارات.
والذهاب إلى الحرب والتستر على زيارة أمران مختلفان جداً. لكن ما فعلته إدارة "بوش" مع صدّام حسين في فترة الحشد والتحضير للحرب قد اتبع القاعدة نفسها، أي أن الإدارة تحدته لكي يبرهن على أن الاستخبارات الأميركية على خطأ، ولذا كانت المسؤولية عن الحرب هي مسؤوليته وليست مسؤوليتنا نحن.
ومن الواضح أن الرئيس "بوش" ومستشاريه لم يتوقعوا من صدّام حسين أن يتعاون في هذا الاختبار، وربما أنهم كانوا على رغم ذلك يريدون الحرب حتى لو تعاون صدّام معهم. لكن حتى لو كانت الإدارة قد عالجت الجوانب الأخرى من المسألة على نحو مختلف، لكان من الضروري على رغم ذلك إخضاع العراق لاختبار. وفي سياق جدالنا حول الحرب، نحتاج إلى الاعتراف بأن الإدارة وضعت الاختبار المناسب لصدّام، وبأنه لم ينجح في ذلك الاختبار.
وعندما طالبت أميركا بأن يحذو العراق حذو بلدان أخرى، مثل أوكرانيا وجنوب أفريقيا، سعت إلى الحصول على المساعدة الدولية لتفكيك أسلحة التدمير الشامل التي لديها، فإنها- أي الولايات المتحدة- قد وضعت حاجزاً مرتفعاً جداً، لكن ليس إلى حد غير معقول. فالاختبار الملائم كان ينبغي أن يعكس السجل الطويل لصدّام والذي يكشف الحصول على أسلحة كتلك واستخدامها وإخفائها. وعلى القدر ذاته من الأهمية، كان يجب أن