لست من هواة التفكيك الذي قد يفرّط أو ينتهي إلى العدمية، ولست كذلك من المغالين في اعتماد نظرية الشك، إلا أنني أؤمن بضرورة أن نشك في صحة ما ألِفه الفكر الإنساني من تعامل شبه يقيني مع الثنائية المطلقة التي تقسم العالم والأشياء إلى قسمين متضادين أو متقابلين، من مثل ثنائية الخير والشر، والليل والنهار، والذكر والأنثى. وقد شمل هذا التقسيم الثنائي كل حدود الفكر، فغرق العالم في ثنائيات دمر الصراع بينها أمن الإنسان واستقراره وحريته. فقد وضعت المعاصرة في مواجهة الأصالة، والحداثة في مواجهة التراث، والقومية في مواجهة القطرية. وكانت المشكلة الأكبر حين وضعت العروبة في مواجهة الإسلام، وهكذا وجدنا أنفسنا مطالبين بأن نقف على الحد، وأن نجيب على أسئلة الكون الكبرى على الطريقة الأميركية (أجب بنعم أو لا، أنت معي أم ضدي) وأن نختار بين اثنين لا ثالث بينهما، وهذا ما ترفضه الفطرة الإنسانية الحرة التي ترى تعدد الألوان والأشكال في الكون، واختلاف الرؤى والتوجهات في العقل والنفس. في الفكر الإسلامي بخاصة ينطلق المسلمون بعفوية خالصة من مفهوم يرفض التقسيم الثنائي، ويدعو إلى الثالث بينهما وهو(الوسط) لأن الله تعالى جعلهم (أمة وسطاً) وكلفهم بالشهادة على الناس، وقد بدا غربياً أن يقبل الفكر العربي تلك التقسيمات الثنائية وهو الذي يرفضها في جوهره الحضاري. وقد كان مثيراً لدهشة المسلمين أن يقال إن العالم داران دار كفر ودار إيمان، وأن يتجاهل المنظرون المتطرفون وجود دار الأمان ودار العهد والميثاق، ودار الديبلوماسية والشرعية الدولية ودار الأصدقاء من الأمم والشعوب التي تربطنا بها علاقات تاريخية قوية ومتينة. وقد نظر بعض المفكرين الإسلاميين بريبة وشك إلى دعاة الفكرة القومية، الذين نظروا هم كذلك بريبة وشك إلى دعاة الفكرة الإسلامية.
ولم تكن المشكلة كما أتصورها هي في سوء التفاهم بين طرفي الثنائية فحسب، بل كانت كذلك في صعوبة الفهم داخل الثنائية الواحدة، فحين حكم بعض مفكري الطرف الإسلامي بإخراج الفريق القومي من دائرة الإسلام، رد بعض الفريق القومي بتجاهل مطلق للأديان، وأعلن بعضهم فهماً إلحادياً للعلمانية، وطالب بإقصاء الدين عن الحياة العامة، كما أعلن بعض مفكري الطرف الإسلامي، تكفير الطرف الآخر وأهدر دمه شرعاً. شكل هذا الموقف المتبادل من التنابذ وسوء التفاهم مدخلاً لصراعات أذكتها أطراف معادية للطرفين لا تريد لهما أن يصلا إلى التفاهم والتصالح، وكان كلا الطرفين يناقضان في موقفهما حقيقة ما يعتقد كل منهما به. فدعاة القومية لا ينكرون في أدبياتهم شيئاً من الإسلام فكراً ورؤية للعالم والكون، بل إنهم يرون الإسلام روح الأمة العربية، وجوهر رسالتها الحضارية، وكذلك يرى الإسلاميون العروبة حاملاً قومياً ولغوياً وتاريخياً للإسلام، ولم يكن أحد من المفكرين الإسلاميين ينكر على العرب أولويتهم في المسؤولية عن الإسلام (وقد أشرت في غير موضع إلى أن الكواكبي في "أم القرى" جعل السيد المكي رئيساً للمؤتمر المتخيل، وجعل نصف أعضاء المؤتمر من العرب، ولم نقرأ اعتراضاً ذا شأن على خطة الكواكبي من مسلمين غير عرب). ولكننا نعرف أن العالم الإسلامي لا يترك للعرب الأولوية في المسؤولية حين يراهم ضعفاء أو متنازلين عن دورهم. وقد حدث عبر التاريخ ما هو مخجل للعرب قومياً ولكنه عادي دينياً. فقد حكم الخدم والمماليك والجواري عروش ممالك العرب، وهذا الأمر محرج للتاريخ العربي على الصعيد القومي، ولكنه يشكل درساً بليغاً للأمة على الصعيد الديني، حيث تتساوى القوميات، أو تذوب داخل الهوية الإسلامية، كما تذوب الفوارق بين الخادم والمخدوم، وتكون مسؤولية المسلم واحدة في الدفاع عن راية الإسلام دون النظر إلى جنسية المسلم أو انتمائه القومي. وهذا ما حدث في قصة شجرة الدر ودفاعها عن مصر.
ولم تكن القضية القومية مطروحة تحت الراية الإسلامية، فكما أن كل الشعوب المسلمة كانت تنقاد لأوامر القادة العرب من أمثال عقبة بن نافع وموسى بن نصير في فتوحات المغرب العربي والأندلس، والقاسم الثقفي وقتيبة في المشرق، كذلك كان العرب يبايعون على السمع والطاعة قادة مسلمين ليسوا عرباً وقد فعلوا ذلك في ذروة قوتهم حين مضوا إلى العَـدْوة بقيادة طارق بن زياد، ثم فعلوا ذلك بإيمان وعزيمة وهم في هوة ضعف حين بايعوا عماد زنكي ونور الدين وصلاح الدين الأيوبي الكردي. وكان طبيعياً أن تتقدم أمم مسلمة من غير العرب لتحمل المسؤولية القيادية حين يتراجع دور العرب، وقد فعل ذلك الأتراك الذين هزموا المماليك وحلوا محلهم في قيادة الأمة المسلمة. استمر العثمانيون في الحكم أربعة قرون حتى ضعفوا وبدأت دولتهم في الانهيار منذ أواسط القرن التاسع عشر، وكان انهيارها سبب ظهور الفصام المرير بين دعاة القومية وبين دعاة الرابطة الإسلامية. وقد ظهر هذا الخلاف في المشرق العربي ولم يكن له أي ظهور في المغرب، لأن الحساسية من حملة التتريك كانت مقتصرة على المشرق، كما أن الدعوة الطورانية حفزت العرب على البحث