حدثني من أثق به أنه اجتمع يوما بالدلاي لاما وهو الزعيم الروحي لجماعة البوذيين في التيبت فحدثه بقصة مؤثرة عن صديقه الذي وقع أسيراً في يد القوات الشيوعية الصينية فنام في الأسر عشرين عاماً وكان أصعب شيء عليه أن يفقد روحه السلامية في ظلمات السجن. والدلاي لاما من منطقة التيبت وفيها أعلى مرتفعات العالم قمة إيفرست وقد استولت الصين الشيوعية على موطنهم. وفر منها الدلاي لاما وما زال حتى اليوم يحاضر في كل مكان. وخلَّد قصته ممثل فيلم طروادة "براد بيتس" في فيلم "سبع سنوات في التيبت". واليوم يتحرك الدلاي لاما في كل مكان فيدعو الناس إلى الحب والتسامح والمغفرة. ويخدم قضيته روحياً أكثر منها سياسياً. ويكسب من الأتباع بكلمة السلام أكثر من ذبح الناس من الوريد إلى الوريد مثل ذبح الخرفان يوم العيد بالتكبير والتهليل على ما يفعله من يريد خدمة قضيته بالدم المسفوح أكثر من الكلمة الطيبة والجدال بالتي هي أحسن. ونحن نعلم من السيرة أن الناس دخلت في دين الله أفواجاً بعد صلح الحديبية أكثر ممن دخل قبل ذلك بسبب احتكاك الناس ببعضهم بعضاً والنقاش الذي يفتح العقول. و"ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين". وهذه الآية من آخر سورة النحل كنت أسمعها من الإمام وحفظتها منه تأثراً وهي التي دعتني إلى أن أسير في مشروعي لحفظ القرآن كله. والفرق بين الجهاد والجريمة شعرة. والزنا والزواج كلاهما ممارسة للجنس. ولكن الزنا يقود للجريمة والعقوبة، والاتصال الجنسي في فراش الزوجية حلال ومكان للإنجاب. وممارسة الجراحة في دكان القصاب لا تجعل من القصاب جراحاً. فكلها فروق بسيطة ولكنها مثل الخيط الأسود من الأبيض الذي يفرق بين الظلمة والنور والليل والنهار. والتديُّن جيد إذا امتزج بالوعي وهو خلطة شديدة التفجير إذا امتزج بالجهل. والخوارج لم يكن ينقصهم حماس. ولكنهم كانوا طاقة ضلت سبيلها في المسار الخطأ. وما يحدث في الساحة الإسلامية العربية هو تكرار للصراع القديم بين العباسيين والقرامطة والسلاجقة والحشاشين والأمويين والخوارج. وبالطبع فإن كلامي هذا سوف يفهمه ويستقبله من ألقى السمع وهو شهيد "وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً". والقرآن حينما كان يتنزل كان يقول البعض: أيكم زادته هذه إيماناً. وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم. وهكذا فالعبرة هي في جهاز التلقي أكثر من الجهاز المرسل. ومن أغلقوا قلوبهم سواء عليهم أوعظتموهم أم أنتم صامتون! فهذه آليات سيكولوجية يجب إدراكها وتفهمها والتعامل مع الإنسان بموجبها لو كانوا يعقلون.
وفي مطلع يونيو 2004 دعا الدلاي لاما إلى لقاء يضم ديانات شتى في روما وممن حضر اللقاء أناس يدعون إلى السلام واللاعنف من الشرق الأوسط وكندا. وطلبوا من المسلم أن يؤدي شعائره على منصة حتى يطلع بقية الناس على صلاة المسلمين. فقام الرجل فوقف على مرأى من الجميع ثم أذن وصلى ركعة فخشعت القلوب للرحمن الرحيم. ونحن لا نستفيد من تجربة البشر. وغاندي عندنا هندوسي والدلاي لاما بوذي. وهم بشر ممن خلق. وعندما تصب على رؤوسنا المصائب فيجب تذكر قوله تعالى أننا بشر ممن خلق فلا نقع في خطأ أهل الكتاب حينما قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه. وأرجع إلى القصة التي رواها الدلاي لاما عن صديقه فقال: كان عنده صديق من الفلاسفة والنساك البوذيين اعتقله الصيينيون عند استعمار التيبت. وأرسلوه إلى معسكرات الاعتقال (الغولاك) الصينية الشهيرة بأعمالها الشاقة وتعذيبها (مثل سيبيريا في الاتحاد السوفيتي). وبعد عشرين عاماً أطلقوا سراحه، فعاد إلى دار السلام في الهند حيث مركز حكومة التيبت في المنفى، وهناك التقى بصديقه القديم الدالاي لاما. قال الدالاي لاما إنهما جلسا بعد كل هذه السنوات يتحدثان عن تجربته وعن ما مر به. وفي إحدى اللحظات قال البوذي العائد من المعتقل: لقد تعرضت لأخطار كبيرة. فسأله الدلاي لاما: على حياتك؟ قال: لا، هذا لم يكن مهماً، ولكن تعرضت لخطر أن أفقد رحمتي وحبي للصينيين عدة مرات! واليوم ونحن نتذكر هذه القصة نخجل... ونشعر كم ماتت أرواحنا حقداً وغضباً في زمن الجنون والفتن. قال الدلاي لاما لهم في ذلك الاجتماع عليكم بالصلوات والعبادات، وحرق البخور وإشعال الشموع، وكل ما يفعله كل منكم في دينه، هذه طقوس وشعائر وأدوات لتساعدكم، ولكن الدين الحقيقي هو عندما تغضب أن تغفر! فهذا هو الدين الحق! "وإذا ما غضبوا هم يغفرون".