الجدل الدائر حول قرار محكمة العدل الدولية في "لاهاي"، والذي صدر في نهاية الأسبوع الماضي، والخاص بضرورة إزالة السور الذي بنته إسرائيل داخل الأراضي الفلسطينية، وتعويض الفلسطينيين المتضررين، يحمل في طياته مضامين عديدة ومهمة للغاية، تعكس إلى حد بعيد جزءا من طبيعة العلاقات الدولية الجديدة، والتي بدأت تأخذ أبعاداً قانونية منصفة، فحروب اليوم، هي حروب حول الشرعية بصورة أساسية، حيث يتضح ذلك بصورة جلية في كل من العراق وفلسطين.
طوال الخمسين عاما الماضية درجت إسرائيل على رفض قرارات الشرعية الدولية، وبالأخص قرارات الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي.. محتمية في ذلك ومستندة إلى دعم القوة الوحيدة العظمى في العالم.
لقد صنفت كافة القرارات السابقة التي أشرنا إليها على أنها قرارات سياسية، وبالتالي استطاعت إسرائيل التنصل منها، وتفسيرها بالطريقة التي ترضي سياستها التوسعية في الأراضي المحتلة.أما القرار الأخير لمحكمة العدل الدولية، فإنه مختلف تماما، فهو القرار الأول والفريد من نوعه الذي يصدر عن هيئة قانونية لها مكانتها واحترامها في كافة أنحاء العالم، كما أن قراراتها تملك مصداقية كبيرة، وذلك للخبرة الكبيرة التي يملكها القضاة، وللسمعة المهنية الراقية لهذه الهيئة الدولية.
لذلك، فقد صدم المجتمع الإسرائيلي بصراحة ووضوح وقوة هذا القرار، حيث حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي تجاهله من خلال اتخاذ إجراءات متطرفة ترمي إلى زيادة الاعتمادات المخصصة لبناء السور، وذلك على الرغم من تحذيرات المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية "ميني مزوز" والذي قال: لا يمكن تجاهل قرار محكمة العدل الدولية، إذ إن ذلك تصرف غير قانوني، ويتناقض مع ميثاق "جنيف".
الصورة الحالية تشبه إلى حد بعيد مسرحية تقوم فيها إسرائيل بدور إقطاعي كبير من إقطاعيي القرون الوسطى في أوروبا، يعتدي على أراضي الغير دون وجه حق، حيث تتغير الظروف ويقاد هذا الإقطاعي إلى المحكمة، والتي تحكم عليه وبصورة عادلة تلزمه بضرورة إرجاع الأراضي التي استولى عليها، فإذا به يرفض ذلك محتميا في هذا الرفض بوالده المتنفذ والقوي، والذي وفر له الحماية غير القانونية عبر الاستخدام السيىء لحق النقض "الفيتو"على مدى الخمسين عاما الماضية.
مشكلة هذا الإقطاعي المحب لتوسيع رقعة أراضيه على حساب الغير في هذه المسرحية هي أن والده بحاجة ماسة في الوقت الحاضر إلى استرداد جزء من مصداقيته، إذ لم يعد يتمتع كما هو الحال في السابق بنفس المصداقية بعد أن أساء جنوده التصرف في سجون العراق، وبالأخص في سجن "أبوغريب"، وقاموا بممارسات غير أخلاقية، ومخالفة للأعراف الإنسانية، مما أدى إلى سقوط الكثير من القيم التي قام على أساسها المجتمع الأميركي الراقي، والذي أسهم مساهمة فعالة في تقدم البشرية وتطورها.
لقد خسر الأب الكثير بسبب تدليله لابنه وتصديه لكل من يحاول إيقافه عن ممارساته،ورعونته التي لا تقيم وزنا لأبسط الحقوق الإنسانية، فالسور سوف يفصل الأطفال عن مدارسهم، والمرضى عن عياداتهم، وسيضع آلاف الفلسطينيين داخل سجون كبيرة، والأدهى من ذلك أنه سيستولي على أراضي الفلسطينيين ومزارعهم وقراهم، إذ إنه أقيم داخل الخط الأخضر وفوق الأراضي الفلسطينية، وهنا بالذات تأتي اعتراضات محكمة العدل الدولية.
هناك سوران سبق لإسرائيل أن أقامتهما، أحدهما على الحدود الدولية مع لبنان، والآخر في قطاع غزة، ولم يثيرا هذه الاعتراضات الدولية، على اعتبار أنه لم يترتب عليهما ما ترتب على السور الأخير من نتائج غير إنسانية، أدت إلى قضم الكثير من الأراضي الفلسطينية، وتشتيت الكثير من العائلات.
قرار المحكمة الدولية يملك مصداقية كبيرة أيضاً لكونه اتخذ بأغلبية ساحقة.. 14 قاضيا، مقابل واحد، وهو القاضي الأميركي، والذي فقد بدوره مصداقيته، كقاض بسبب وقوفه مع المعتدي في الوقت الذي يفترض به أن يكون أميناً للوعد الذي قطعه على نفسه، عندما أصبح قاضيا. لو صوت أحد القضاة الخمسة عشر معه لافترضنا أن هناك جدلا قانونيا، أما أن يصوت وحده ضد 14 قاضيا، فإن هذا القاضي اتخذ قراره إما لاعتبارات مالية أو عقائدية، وفي كلتا الحالتين فقد أساء إلى شرف هذه المهنة الرفيعة.
مشكلة أخرى تتعلق بالأب والابن في هذه المسرحية، وهي أنهما لا يريدان أن يدركا حجم التغييرات في العلاقات الدولية، فالمنطق الوحيد الذي ما زالا يتعاملان به هو منطق القوة، في الوقت الذي تتعامل فيه دول العالم، وبالأخص أوروبا بكثير من الحكمة والدبلوماسية.
لا نعرف على وجه التحديد نهاية هذه المسرحية، إلا أن النصيحة التي يمكن التنويه إليها هنا، تشير إلى ضرورة الاستماع إلى أوروبا الحكيمة، فإذا كان الأب وابنه الذي أفسده الدلال، قد قدما إلى منطقتنا حديثا وفي فترة زمنية لا تتجاوز خمسين عاما، فإن أوروبا هذه عاشت بيننا أكثر من مائتي عام، كما أنها تعرف منطقتنا وخباياها أكثر من أي قوة أخرى في العالم.
وإذا ما أراد المخرج أن يصل إلى نهاية سعيدة لمسرحيته