"بلاد السودان" هي التعبير الشائع في كتب الرحالة العرب، ثم من شايعهم واستفاد منهم كثير من المؤرخين الأوروبيين إشارة إلى منطقة شاسعة تمتد واقعياً من منطقة ممالك "الفونج" أو المملكة الزرقاء "سنار" شرقي جمهورية السودان، مروراً بـ "الفاشر" وبلاد سلطنة "الفور"، في غرب السودان ثم بلاد وممالك "واداى" و"كانم" و"بورنو" في تشاد ونيجيريا حتى "المدينة" في السنغال.
وكتب عن" الفور" تفصيلاً مؤرخون محدثون أقربهم محمد بن عمر التونسي في "تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان" أوائل القرن التاسع عشر، ومروراً بنعيم شقير، حتى يوسف فضل أواخر القرن العشرين. وكانت ممالك عظيمة في التاريخ مثل مملكة مالي أو "إمبراطورية مالي" في بعض المراجع هي إحدى السلطنات الامبراطورية فعلاً التي امتدت من أطراف "أودغشت" إلى "كومبى صالح" و"تمبوكتو و"جنى" وحدود "كانم" و"بورنو" في نيجيريا. لذلك فعند استقلال جمهورية مالي الحالية عام 1960 مال حزب "الاتحاد السوداني" المسيطر إلى تسمية البلاد باسم "السودان" رغم أنه الاسم الذي أطلقه الفرنسيون على المستعمرة لإدراكهم منذ قرن مضى وأكثر أنها قلب بلاد السودان التاريخية. ولم تشأ القيادة الجديدة أن تتخلى عن هذا المعنى نفسه خاصة وفي قيادة الحزب في ذلك الوقت "موديبو كيتا" الذي يذكّّر اسمه بدوره بأسماء الامبراطورية القديمة. لكن بعض الشخصيات السياسية ومن دوائر الأمم المتحدة رأوا على ما يبدو أن ثمة جمهورية أخرى باسم السودان وأن مرجعية "مالي" قد تحل المشكلة، فحلتها فعلاً.
لماذا نتذكر ذلك الآن ونحن إزاء مشكلة ساخنة مثل مشكلة "دارفور" في صحراء أفريقيا الغربية الساخنة، وفي طرف منها تهديد وحدة بلاد نعتز بها، وفي طرف آخر لهجة مفتعلة عن "عرب" وأفارقة في منطقة تقف كلها شاهداً على تفاعل تاريخي لم تشهده معظم بلاد العالم، حتى التي تتولى قيادة معركة "الظلم العرقي" والنقاء العرقي أو التصفية العرقية المثارة من حول "التمردات" السودانية. وأعنى بذلك أميركا وبريطانيا على السواء.
ولأنني أعرف المنطقة بهذا الشكل فقد كتبت دائماً أن الحل لا بد من أن يصدر عن حوار سياسي اجتماعي داخلي أولاً بالطبع، ثم عن حوار إقليمي مع جيرة مختلطة بالمنطقة على النحو الذي نرى أو تنظيم إقليمي تشغله الوحدة الأفريقية والتضامن العربي الأفريقي بالضرورة.
وكان ذلك في تقديري منذ البداية هو "الاختراق" المنطقي الممكن في الإقليم كله دون إصرار على التدخل الأجنبي، لأن المنطقة ملغومة بفرض هذا التدخل المدمر للمصالح كما نرى. وقد جاءت محاولة الاختراق الأول على نحو محدود من المحيطين بالسودان بالفعل ولنفس الأسباب التي أرددها. فالرئيس التشادي ذو الأصول "الزغاوية" الممتدة بين تشاد والسودان، سارع ببذل جهد المصالحة أولاً، وهي مصالحة محفوفة بمشاكل العلاقة بين "متمردي" الفور مثلاً واللاجئين بالآلاف إلى تشاد، بل وببعض العلاقات غير الواضحة مع متمردين تشاديين أيضاً شمال البلاد، هذا فضلاً عن مشاكل العلاقة بفرنسا نفسها وسياستها في هذه القضية.
وعلى جانب آخر كانت المحاولة من قبل "ألفا عمر كوناري" رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، وهو الرئيس السابق لجمهورية مالي، فهو يعرف مشاكل اتساع القطر- الإقليم في بلاده، وقد جرب خلال رئاسته منذ أول التسعينيات ميراث تمرد أهل شمال مالي (طوارق وعرب) على مركزية "باماكو" وتهميشهم اقتصادياً وسياسياً حتى رفعوا السلاح ولم يهدأ الجو إلا بحوار ديموقراطي واسع مع الحركة الشعبية "الأزواد" MPLA أو "الأجواد" الذين اتخذ طرف منهم وضع الأجاويد العرب أو "الجنجاويد" في خلاف مع "الطوارق" المظلومين شمال البلاد، والذين يبقون مجرد متعة أنثروبولوجية لعلماء الغرب والسياح الأوروبيين الذين يحبون أجواء الصحراء.
لذلك استفاد "كوناري" من نموذج الحل في مالي ومن فكرة الوزن الإقليمي الذي ينشد تحقيقه للاتحاد الأفريقي فأسهم مشكورًا بجزء من الوساطة الجارية التي نأمل في أن تكون "اختراقا" أهلياً أفريقياً بديلاً للاختراق الخارجي الغاصب.
وفي ظل غياب اختراق سياسي ديموقراطي واجتماعي حقيقي ومعمق من قبل الحكومة السودانية نفسها للواقع المثير الذي تواجهه بعد اختراقها المنفرد أيضاً في مشكلة الجنوب، وفي ظل غياب الاختراق العربي الملائم للموقف من قبل مصر أو الجامعة العربية أو الممولين العرب لمشروعات تنمية يثير الوعد بها لعاب البعض لإدارة حوار أفضل من قبل الطرفين. في ظل ذلك الغياب كله تقع تدخلات وأحداث غريبة يكشف بعضها عن تفسيره المباشر أو المضمر وبعضها الآخر يستغرق فهمه بعض الوقت.
فالأميركيون قلقون تماماً من استمرار الاضطراب في المنطقة الصحراوية الواسعة التي يقدرون -هم لا نحن- طبيعة تداخلاتها التاريخية، فتتحول قوى الاضطراب إلى مأوى "للإرهابيين" في صحراء ومدن صحراوية تضم متمردين في كل منحنى ما بين تشاد ومتعصبي نيجيريا، وبقايا سيراليونيين وليبريين وعاجيين بما يجعل "الخرق يتسع على الراقع" بشكل مخيف بينما تبنى تحالفاته