كنت قبل أيام في مدينة "أسبن" بولاية كولورادو الأميركية، ليس كسائح ثري بين عجائز أميركا، وشباب العرب حتى لا يغضب علي من يرتاد تلك المدينة الجبلية الخضراء منهم، وإنما بصفتي مدعوا للمشاركة في ملتقى مجلة "فورتشن" تحت عنوان "للعصف الفكري"، وهو لقاء بات يعقد سنويا على غرار المنتدى الاقتصادي العالمي بـ "دافوس".
حاولت بالفعل أن أعرض فكري لعملية عصف شديدة فاخترت موضوعا صعباً، لا أعرف الكثير عنه وإنما كنت متحمسا له كمستهلك، وهو تقنية المعلومات، من بين عشرات الموضوعات المتاحة. كان عنوان جلسة الإفطار التي بدأت الساعة السابعة صباحا "التقنية الكونية ومخاطر النمو". موضوع لا يثير الحماسة كي استيقظ مبكراً من أجله ولكن الأميركيين في أسبن "فاضيين" ويستيقظون من قبل الفجر ليمارسوا رياضة الجري قبل أن يتوجهوا إلى صالات المحاضرات.
وجدت أمامي عددا من رؤساء وكبار مسؤولي الشركات اللامعة في هذا الحقل، وبالطبع كان بينهم غريبو الأطوار ممن عاشوا وصنعوا ثورة المعلومات التي ضربت الأرض شرقا وغربا في العقدين الأخيرين، وحولتها إلى قرية كونية، وهاهم يدخلون منتصف العمر، بدون أن يتخلوا عن شعورهم الطويلة، وقمصانهم الوردية، وقد استقر السوق ومعه التقنية، وقلت الصراعات، ولم يعد كمبيوتر محمول بحجم اليد يثير صيحات العجب، ولا برنامج جديد يبحث في أرشيف وزارة من الوزارات عن اسم ما خلال ثوان يستحق ملايين الدولارات.
اعترف أن كثيرا مما سمعته مر "فوق رأسي" بمعنى أنني لم أفهم كل ما كان "يرطن" به هؤلاء. وقد طيبت خاطري سيدة أعمال سعودية ممن يرفعن رأس الوطن في مثل هذه المحافل، حيث قالت لي: "حتى أنا لم أفهم بعضا مما كانوا يتحدثون عنه، لكن هذا علم وعالم لا بد من أن يكون لنا موقع مميز فيه.
ولكنني خرجت من عندهم ومن جلسات أخرى حضرتها في الملتقى بالنقاط التالية، مما اعتقده حقائق يجب أن تغير نمط التفكير السائد في بلدنا. إن "ثورة تقنية المعلومات" قد انتهت. ونعيش الآن استحقاقاتها، في عالم استقر أخيرا على مرحلة ما بعدها، بما أحدثته من انقلاب في مفاهيم الإدارة، والتعليم والتجارة بل حتى العلاقات الدولية.
ومثلما انتهت الثورة، انتهت معها "الثروة السريعة" من تقنية المعلومات، التي أصبحت "سلعة" يمكن المضاربة عليها حالها كحال الزنك أو النحاس بحكم أنها باتت متوفرة ومتاحة "كالرز". ويكفي أن تتوجه إلى تايوان أو الصين الكبرى لتملأ حاويتك بما شئت من شرائح ذاكرة أو تشغيل، أو "كيبلات" ليفيه، وعدسات دقيقة من قائمة لا تنتهي من تلك الأجزاء الصغيرة التي تصنع العالم من حولنا.
إنهم في الصين وشرق آسيا و"بانجلور" الهند ، بل حتى إسرائيل، نعم إسرائيل، التي لن تضيع فرصة كهذه، قد أصبحوا بفضل مثابرتهم، وتخطيطهم المبكر قادرين على المنافسة والمشاركة مع الكبار في قيادة السوق بما يقدمونه من اختراعات وبرمجيات جديدة، وسريعة بالشكل الذي جعل الكبار يجدون صعوبة في التنافس معهم.
لقد باتت هناك "بيئة" عمل وشراكة، وتعارف تمتد من "سياتل" إلى "شنغهاي" و"تايبيه" مرورا ب "بانجلور" الهندية بين مدراء تنفيذيين شباب، ومطورين ومبرمجين، يعرفون بعضهم البعض، ويلتقون باستمرار في مثل لقاء "أسبن" وغيره، يتبادلون الرأي، ويتنافسون، ويسرقون العقول والأفكار من بعضهم البعض، وبعض هؤلاء سيكونون يوما قادة أو في الصف الأول بين أصحاب القرار في بلادهم بما يتراكم عندهم من ثروة ومعرفة وعلاقات.
إن بيئة تقنية المعلومات غير عدوانية (ربما ليس بعد) مقارنة بالرسمية الغربية الكلاسيكية التي وصفت يوما بالمتوحشة، والتي اشتد عودها بعد الثورة الصناعية، واختلطت دماؤها وأفكارها ونواياها بالامبريالية الغربية. إنهم أولئك "البارونات" الذين امتلكوا الصناعات الثقيلة في شمال بريطانيا، وشرق وشمال الولايات المتحدة. ولا ننسى صناع السلاح والموت، حيث أعطى هؤلاء للغرب والرأسمالية السمعة السيئة، فنالوا غضب الشعوب المستضعفة تارة باسم اليسار الثوري، واليوم باسم "الإسلام". أما بيئة هؤلاء الذين يجتمعون في "أسبن" و "دافوس" السويسرية، فهي محبة للسلام، وللخضار نسبة إلى أحزاب الخضر الليبرالية المهتمة بالبيئة وارتفاع درجات الحرارة الكوني أو ما اتفق على تسميته "التغيير المناخي". كما أنهم يمدون أيديهم بحنو إلى العالم الثالث، فيتبرع رموزهم ببلايين الدولارات للأمم المتحدة، ومنظمات الإغاثة لمحاربة الفقر، والإيدز، والمرض وغير ذلك من المواقف النبيلة. إنهم قوم لا يحبون الرئيس "بوش" ونائبه "ديك تشيني"، وشاهد معظمهم فيلم "مايكل مور" الأخير "فهرنهايت 9/11"
إن بيننا وبينهم مساحة هائلة يجب أن نحرثها، وحبالا لا نقطعها، ففي ما يخصنا يرفضون الهيمنة الأميركية، وينتقدون الإدارة الحالية هناك على تفردها بالقرار في الشأن العراقي، فهم كونيون بطبعهم، وفي فلسطين يحنون إلى السلام هناك، وإن كان الإسرائيليون نشطين بينهم، يأتون بعيون مسبسبة تقطر سلاما أو هكذا يريدون أن يراهم إخوانهم في "أسبن".