المكان هو الشارع الموازي لشارع الحمرا ببيروت. كنت قد وصلت وعائلتي إلى لبنان قبل يومين هرباً من حر الكويت الذي لا يوازيه حر، وممارسة لعادة صيفية يكررها الكثيرون. كانت هذه الزيارة الأولى لأبنائي الصغار إلى لبنان الجميل. ركنت السيارة فانزلق هاتفي النقال إلى الشارع. ومع صيحة الأطفال ونزولهم، وخوفي عليهم من السيارات، لم أسمع صوت الهاتف حين ضرب الإسفلت. درنا قليلا في الشارع، ودخلت مكتبة "أنطوان" ومكتبة "واي إن" بشارع الحمرا، واشتريت كتاباً ممنوعاً في لبنان من مكتبة أخرى. أخذت الأطفال إلى مقهى الـ"موفينبيك" في الحمرا، وبعد أن جلسوا أدخلت يدي في جيبي بحثاً عن النقال لإجراء مكالمة، شعرت بقشعريرة حين لم أتلمسه، لقد سبق الحدس الحقيقة، ببطء يرافقه الدعاء وضعت يدي الأخرى في جيبي الآخر، وتيقنت من أن الهاتف النقال قد ضاع.
لم يكن يهمني الهاتف نفسه قدر ما كان يهمني ما هو محفوظ في ذاكرته من أرقام، كل الاتصالات العملية، وأرقام هواتف الأصدقاء الذين على اتصال مستمر معي مخزنة في هاتفي النقال، بل وحتى بعض الأرقام المهمة في لبنان نفسه. شعرت بضياع شيء مهم، وليس بشيء ثمين، وأدركت قيمة هذا الجهاز الصغير ومدى اعتمادي عليه. رسمت خريطة سريعة في ذهني لخط سيري، وكررت الرحلة عائداً على قدمي لعلي أجد الهاتف، وأنا أفكر كيف أني سأنقطع من اتصالات مهمة، لكنني تخيلت راحة الإجازة إن لم أجد الهاتف.
تذكرت أني ساعة الوصول إلى المطار دخلت مكتب الاتصالات فيه وطلبت هاتفاً نقالا آخر، فقالوا لي إن الخطوط في لبنان شبه معدومة، واستغربت لانقراضها في موسم السياحة. سألت مكتباً للهواتف والخطوط في منطقة سكني، فقال إن الخط بثلاثمائة دولار، أي خمسة أضعاف قيمته الحقيقية. حذرني صديق لبناني من شرائه، ووعد ببذل الجهد لإيجاد خط أرخص خلال ساعات. لم أكن مستعجلا، فانتظرت، وها قد ضاع هاتفي النقال ولم أكن قد أمنت له بديلا.
نظرت حولي في المقهى وإذا بشخص خليجي اتضح أنه كويتي كريم، أعطاني هاتفه النقال لأتصل بالكويت لألغي الرقم بعد أن يئست من إيجاد هاتفي المفقود، فقلت لنفسي: "لم لا أجرب الاتصال بهاتفي فقد يكون بحوزة ابن حلال يعيده لي"، وما أن رنَّ الهاتف حتى رد من وجده، فقلت له إنني صاحب الهاتف الذي وجده وإنني سأكون ممتنا لو أعاده وله مني مكافأة، فقال لي:"يا عمي أنا ما بدي مكافأة، أنا اتصلت بصديقك اللي عملت آخر اتصال معه في بيروت وأنا في طريقي إلى الرملة البيضاء لأسلمه الهاتف". فقلت له شاكراً بأني بالحمرا، فوافق على المجيء لتسليمي الهاتف. وحضر شاب يشعُّ صدقاً وأنفة، وسلّم وجلس بعد إلحاح ورفض حتى فنجان قهوة لأنه مشغول في عمله حيث يعمل في مطعم قريب من مكاننا. شكرته بكل ما أجيد من كلمات الشكر، وحاولت أن أعطيه مكافأة فرفض بشدة أقوى من إلحاحي. كان اسمه، أحمد المصري، وغادر المكان.
كان أحمد المصري أول لبناني يتعرف أبنائي عليه بلبنان، فكان انطباعهم بأن اللبنانيين كلهم أمناء، وهذا ما أخافني بقدر ما أفرحني، تماماً مثلما يفرحني قدر ما يضايقني أن يظنوا أن المصريين كلهم أذكياء، أو أن العراقيين كلهم أوفياء أو بأن كل الكويتيين كرماء.
كان أحمد المصري عنواناً لحكاية لبنانية جميلة، سوف يقصها أبنائي سنين طويلة، وسوف يستذكرونها عند مواقف متعددة.