من وسائل الاختراق الثقافي لمصر بالإضافة إلى ترويج بعض الفئات من الطبقة العليا والطبقة الوسطى للعولمة والليبرالية والواقعية السياسية ما انتشر في الآونة الأخيرة خلال بعض القنوات الفضائية ذائعة الصيت من تكوين جماعة في مصر باسم "مصر أمُّنا" وفي طريقها إلى التحول إلى حزب جديد، شعاره "مصر أولا"، تؤصل مصر الفرعونية، وتعزلها عن وطنها العربي وعالمها الإسلامي. وهي دعوة قديمة جديدة روج لها بعض أقباط مصر من المنبهرين بالغرب والرافضين للعروبة باسم حضارة مصر وبداوة العرب، وقِدم مصر وحداثة العرب. وربما يكون السبب أيضا هو أن العروبة جسر للإسلام، ومصر في بؤرته، بإسهاماتها في الحفاظ على اللغة والثقافة العربية، وبما لديها من حضور إسلامي من خلال جامعاتها ومعاهدها الإسلامية في كافة أرجاء العالم الإسلامي. مع أن نصارى الشام منذ الفتح العربي كان ولاؤهم للعرب، الفاتحين الجدد. وقاموا بأكبر حركة ترجمة من اليونانية أو السريانية للتراث اليوناني، خاصة الأرسطي إلى اللغة العربية. وعيَّنهم المأمون في ديوان الحكمة للقيام بهذا الدور باسم الدولة. واستأنف نفس الدور نصارى الشام المحدثون في القرن التاسع عشر، وترجمة أمهات الكتب العلمية والفكرية والأدبية من الغرب الحديث إلى العربية مساهمة في عملية النهضة والإصلاح.
وتظهر أمثال هذه الدعوات للاختراق الثقافي في وقت يظن البعض فيه أن مصر توقفت عن السير، وأن الرؤية قد غامت أمامها. فلا هي وطنية تدافع عن مصلحة الوطن. ولا هي عربية تقف مع إخوتها العرب في محنهم في فلسطين والعراق. ولا هي إسلامية تعطي الحركة الإسلامية شرعيتها في الداخل أسوة بباقي التيارات الفكرية والسياسية الناصرية والليبرالية. وغفوة مصر لا تعني ضعفها أو انحرافها أو تخليها عن رسالتها. إنما هي غفوة الذئب بعين واحدة، والهدوء الذي يسبق العاصفة.
وهي دعوة تظهر مع دعوات شبيهة داخل مصر منذ السبعينيات لإعطاء شرعية للتخلي عن الالتزام القومي، وعقد صلح منفرد مع الكيان الصهيوني كما حدث في 1979، مع التحول من الشرق إلى الغرب، ومن الاشتراكية إلى الرأسمالية. ثم ظهرت دعوات شبيهة ما دامت الشقيقة الكبرى قد بدأت مثل "الأردن أولا"، "الكويت أولا" على نحو علني. وقد تتم ممارسة الشعار على نحو عملي دون الإعلان عنه. فقويت القطرية، وتفتت العرب، وغابت عنهم الإرادة الجماعية والمصلحة المشتركة كما ظهر في مؤتمر القمة العربي الأخير في تونس.
وهي الدعوة التي أطلقها دعاة العزلة في الداخل في مقابل الانفتاح على الخارج بدعوى جلب الرخاء، والربط بينه وبين السلام. فقد أنفقت مصر في أربع حروب أو أكثر الكثير من دخلها القومي. وأصبح دخل مصر السنوي للفرد أقل عشرات بل مئات المرات من نظرائه العرب. وأصبحت الخدمات العامة في مصر من شبكات للطرق والمواصلات والمياه والكهرباء والصرف الصحي والتعليم والعلاج بل والطعام والقوت اليومي أقل بكثير من الأقطار العربية الأخرى في المشرق والمغرب.
كان هدف الاستعمار والصهيونية إرجاع مصر إلى داخل حدودها الطبيعية بعد أن حملت لواء حركة التحرر العربي في الخمسينيات والستينيات، وأصبح للقومية العربية صداها في كل مكان، تمثل إحدى حركات التحرر الوطني في العالم الثالث منذ باندونج حتى بلجراد. وتحولت إلى سياسات في الداخل والخارج، اشتراكية في الداخل وعدم الانحياز في الخارج. وفي الهجمة الثانية للاستعمار منذ الصلح المنفرد مع الكيان الصهيوني في 1979، من أجل قيام إسرائيل الكبرى ومنذ العدوان على أفغانستان والعراق من أجل قيام الإمبراطورية الأميركية الجديدة تتم محاولات تهميش مصر، وإخراجها من قلب الوطن العربي حتى يتم تقطيع أوصاله وابتلاعه قطعا قطعاً. كما تم تقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية، الرجل المريض من قبل، وابتلاع أوصالها من الدول الاستعمارية الكبرى وفي مقدمتها إنجلترا وفرنسا.
وكما حدث لفرنسا بعد هزيمة نابليون في"واترلو" بالعودة إلى حدودها الطبيعية، والتخلي عن تثوير أوروبا، كذلك تعود مصر إلى حدودها الطبيعية بعد هزيمة عبدالناصر في 1967. وهو تصور عنصري شوفيني للعلاقات بين الشعوب وبالأخص دول الجوار. ويقترب من التصور النازي. فلا فرق بين "مصر فوق الجميع" و"ألمانيا فوق الجميع". فمصر جزء من الأمة العربية بفعل التاريخ والنسب، والحاضر والجوار، والمستقبل والمصالح العامة. ويخلط هذا التصور بين العرب والأعراب. ويروج لما قاله المستشرقون عن الفتح العربي، ووصفه بأنه الغزو العربي. والاحتلال العربي لمصر والمغرب العربي، وفارس والهند وأواسط آسيا مثل احتلال الأتراك للعرب لوصف دولة الخلافة. ويخلط بين العلم والوطن. وينتقي من التاريخ ما يؤيد روح العزلة والتفوق العنصري وما يتعارض مع المصالح الوطنية لمصر والأمة العربية.
إن مصر دولة بلا حدود جغرافية، تجمع سكاني مفتوح. يفيض على محيطه أو يفيض محيطه عليه. مصر دولة مفتوحة من الشرق تربطها بالشام صحراء سيناء. وكانت الغزوات تأتي إلى مصر من الشرق منذ الهكسو