سواء أكانت التربية هي انعكاس وصورة لحركة المجتمع وتطبيق لفلسفته، أم أن علاقة ارتباطهما ذات طابع جدلي وتأثير متبادل، فإنه في ظل العولمة واختراقاتها المتزايدة لم تعد فلسفة المجتمع وثقافته إطاراً للنظرية العامة للتربية، بل أصبح ما هو عالمي ومعولم يؤثر بشكل عميق على المجتمع ونظمه التربوية. وذلك التحول في المعايير الموجهة للتربية ووظائفها المجتمعية، هو موضوع كتاب "تربية العولمة وتحديث المجتمع" الذي يشتمل على دراسات وضعها أربعة من أساتذة العلوم التربوية في الجامعات المصرية، حول "قيم العولمة" و"التربية بين الخصوصية والكونية"، وإشكاليات التعليم العالي العربي والعولمة"، و"تطوير سياسات التعليم والتدريب العربية"، و"الحداثة وما بعد الحداثة في مصر"، و"التعليم المصري وتحديات العولمة".
ففي دراسته حول "عولمة القيم وقيم العولمة"، يهتم الدكتور طلعت عبدالحميد بتوصيف العولمة وأسسها الفكرية والفلسفية ومخرجاتها التقنية والاقتصادية والسياسية، وما أحدثته هذه الظاهرة غير المسبوقة في التاريخ من تبدلات في خريطة القوة على مستوى العالم، وطبيعة النظرة السائدة في العالم الثالث ونخبه الفكرية إلى العولمة. وكما يشرح الكاتب معنى القيم من وجهة نظر فلسفية واجتماعية، يقول عن دور التربية في الحفاظ على القيم ونقلها، إنها يمكن أن تكون أداة للنقل والتحديث وتجديد التراث، أي أن الحامل الاجتماعي للقيم ممثلا في مؤسسات التربية يمكنه القيام بدور في بتوجيه وتشكيل القيم الأصيلة بما يؤسس لقيم العولمة! فدور التربية في ظل العولمة وتجلياتها يصبح قائماً على معرفة الأصيل وجعله معاصراً، من خلال التأسيس لعقلانية جديدة أولا، وتكوين مجتمع التعليم ثانياً، والاستناد إلى تعليم محوره الإبداع ثالثاً.
وفي دراسة أخرى يناقش الدكتور عصام الدين هلال أوضاع الدول العربية وإخفاق مشاريعها التحديثية بسبب غياب البعد الديمقراطي في سياساتها الداخلية وافتقارها إلى إرادة مستقلة في مواجهة الدول الكبرى، لكن العولمة كطور متقدم في مسار الهيمنة الغربية، سرعان ما جعلت البلدان العربية في حالة انكشاف اقتصادي وسياسي وأمني وتكنولوجي وتعليمي.. شامل. ويرى الكاتب أنه في ظل المناخ الشمولي الذي تفرضه العولمة، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، لا يمكن للتعليم أن يتقدم في صنع المبدعين؛ بل "يصرخ الجميع بأنه لا إبداع إلا في مناخ ديمقراطي". بيد أنه في مقابل العولمة الشمولية، تسعى "العولمة الديمقراطية" إلى بناء "الإنسان العولمي"، وهو شخص يتسم بخصائص أهمها كونه مركباً من العالمية والخصوصية الثقافية، وذو عقل نقدي قادر على الانتقاء والاختيار، ويفكر تفكيراً مستقبلياً..
ويعتقد الكاتب أن الدور الرئيسي للمؤسسات التربوية في المجتمع حالياً، يجب أن يتركز على مساندة الأسرة في أداء دورها التربوي، ذلك أن الأسرة في السياق الذي تفرضه العولمة باتت مهددة في وجودها ذاته وليس في وظائفها وقدراتها فقط.
ويتطرق الدكتور طلعت عبدالحميد إلى وضع التعليم النظامي في كنف العولمة، قائلا إن "صدمة المستقبل" دفعت نحو إعادة هيكلة المؤسسات التعليمية وإدخال أساليب التعليم الافتراضي وتقنيات التعليم عن بعد، فاتسع دور الجامعات الإلكترونية التي تتجاوز الثقافات والحدود المكانية والمجتمعية. لكن هذا النمط من التعليم الذي تشجعه وسائط الاتصال الحديثة، يهدد اللغات القومية لصالح اللغة الإنجليزية، ويزعزع الارتباط بالعوامل الثقافية المحلية. وفي هذا النطاق يعترف الكاتب بعمق الأزمة التي تصيب التعليم النظامي في الدول النامية عموماً والعربية منها بصفة خاصة، إذ يسيطر عليه طابع الجمود والعقم وفقدان التنافس وتشجيع الإبداع. إلا أن قضية مثل خصخصة التعليم تظل موضعاً لإعادة النظر باستمرار، على اعتبار أن التعليم يمثل قضية قومية وإحدى مسؤوليات الدولة، كما هو الأمر في فرنسا مثلا، وفي كوريا الجنوبية وفي بريطانيا أيضاً.
وترى دراسة للدكتور محسن خضر حول "سياسات التعليم والتدريب العربية" أن هذه السياسات تواجه قائمة تحديات عريضة يعج بها عالمنا المعاصر، وهو ما لا تستجيب له نظم التعليم القائمة على فترة زمنية تعليمية واحدة وعلى بقعة ثابتة من المكان ومجموعة معينة من القواعد الإجرائية، ومحتوى ومصدر واحد للتمويل.. فهذه الصيغ لا تلائم تعليما فعالا وقادراً على مواكبة العولمة وتحدياتها. ويلح الدكتور خضر على الوظيفة الأساسية للتعليم في تأهيل القوى العاملة وتدريبها وتوفير المحيط الملائم لتعزيز الجودة والإبداع. لكنه يلاحظ أن الدور الاجتماعي والتنموي للنظام التعليمي العربي وإسهامه في إعادة إنتاج الفكر والقيم ونمط العلاقات، يغلب عليه طابع الجمود، لأنه تعليم ذو نوعية متدنية جداً ويفتقد إلى روح البحث والنقد والإبداع.
وفي دراسته حول الحداثة وما بعد الحداثة في مصر، يصور الدكتور طلعت عبدالحميد مجتمع مصر كحالة ما تزال سابقة على الحداثة، قائلا إن الحداثيين المصريين ظلوا محصورين في مؤسسات ثقافية ومش