كان في إمكان الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين أن يتجنب النهاية المؤلمة التي انتهى إليها، وأن يجنب بلده وشعبه الآلام الشديدة في مرحلة الانتقال الصعبة من نظامه الاستبدادي الدموي إلى نظام أفضل بالضرورة حتى إذا لم يكن ديمقراطياً بشكل كامل.
انتهى صدام حسين متهماً، وجهت ضده سبع تُهم تكفي إحداها للحكم بإعدامه عند تقديم الأدلة الثبوتية القانونية. سيق إلى المحكمة مكبل اليدين، ونزلت عليه لعنات كثير من العراقيين الذين عانوا الأمرّين من ظلمه، وسوء حكمه، ثم من فوضى مرحلة الانتقال التي لا يعرف أحد موعداً لنهايتها. كان ممكناً أن تقل اللعنات التي يمطره كثير من العراقيين بها الآن لو أنه جعل قراره الأخير في الحكم هو القرار الصائب الوحيد في تاريخه السياسي. أتيحت له فرصة أخيرة من خلال المبادرة العربية الوحيدة التي توفرت لصاحبها الحكمة والشجاعة، جاءت مبادرة صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات، في الوقت الذي صمت بعض القادة العرب وجلسوا منتظرين الحرب، بينما اكتفى البعض الآخر بتحركات تقليدية نمطية كانوا يعرفون هم قبل غيرهم أنها لا جدوى من ورائها. لم يكن ثمة مخرج من الأزمة التي استحكمت في أوائل العام الماضي إلا بتجاوز هذا النوع من التحركات، وطرح حل وسط تاريخي ينقذ العراق من ويلات الحرب، ويقي الأمة تداعياتها الخطيرة.
قدمت مبادرة الشيخ زايد حلاً يتلخص في تنحي صدام حسين عن السلطة بما يؤدي إليه ذلك من تغيير الأوضاع في العراق دون حاجة إلى تدخل عسكري أميركي. كان في هذه المبادرة حبل النجاة الوحيد للجميع، بمن فيهم صدام حسين شخصياً لو أنه أفاق وقتها من غيبوبته السياسية التي حلت لعنتها على العراق وشعبه.
ولكنه أبى إلا أن يهدم "المعبد" على نفسه وشعبه بعد أن عاث فيه فساداً وأشبعه تخريباً. فرفض المبادرة وأوعز لصنائعه فهاجموها، فيما مضى هو إلى نهاية يقول كثير من العرب اليوم إنها كانت محتومة لا سبيل إلى تجنبها. وليس هذا إلا نتاج خلل بنائي في الفكر العربي، ويظهر هذا الخلل الآن في حديثين متناقضين في شأن مصير صدام حسين. أولهما يقول به أنصاره الذين دافعوا عن إصراره على عدم تغيير سياسته ثم على عدم تنحيه، إذ يزعمون أن شيئاً لم يكن ليغير الخطة الأميركية لشن الحرب واحتلال العراق بدعوى أن هذا كان أمراً محتوماً. ووجه الخلل هنا أنه لا توجد حتميات في السياسة العالمية أو الداخلية، أو في أي سياسة في واقع الأمر. ولم يكن في إمكان أميركا أن تشن تلك الحرب إلا إذا قدم لها حاكم العراق حينئذ الذرائع التي لم تتمن إلا القليل منها.
أما الحديث الثاني فيقول به أشد خصومه الذين يرون أنه يواجه الآن النهاية المحتومة لكل طاغية جبار. فلم تكن هناك نهاية واحدة للطغاة، بل يجوز القول إن معظم الطغاة في التاريخ لم يواجهوا العدالة في نهاية حياتهم، بما في ذلك أقربهم إلى صدام حسين في العصر الراهن وهو زعيم "الخمير الحمر" في كمبوديا "بول بوت".
فلا حتمية إذن في شن الحرب على العراق، أو في مثول صدام أمام العدالة. والأكيد أنه لو كان الشعب العراقي قد استفتي عشية الحرب لوافق على أن يغادر صدام البلاد من دون محاكمة أو عقوبة في مقابل تغيير نظام الحكم الدموي بشكل سلمي ومن دون المعاناة الهائلة التي يعانيها الآن في مرحلة الانتقال العسيرة. فما كل من هذين الحديثين اللذين ينطلقان من افتراض "حتموي" زائف إلا جزءاً من أحاديث إفك شائعة هذه الأيام بمناسبة محاكمة صدام حسين.
فإلى الزعم بأن تنحي صدام ما كان ليغير شيئاً، والادعاء بأن نهايته الحالية كانت محتومة، يمكن أن نقف أمام حديثين آخرين من أحاديث الإفك، وهما حديث الوطن والاحتلال وحديث الشرعية على ما بينهما من اتصال.
فقد حدث ترويج فضائي وأرضي لادعاء صدام حسين أنه ما زال رئيس الجمهورية العراقية وتطاوله على قاضي التحقيق قائلاً له:"أنت تمثل سلطة الاحتلال" و"كل عراقي يمثل العراق لا ينبغي أن يعمل بموجب قرار صادر عن قوات التحالف وهي قوات غزو".
أراد صدام حسين أن يحول الجلسة المخصصة لإعلامه بالتهم القانونية التي سيحاكم عليها إلى منبر لاتهام المحكمة وكل النظام العراقي الجديد الذي يجري بناؤه بأنه صنيعة الاحتلال. وسعى أنصاره إلى الترويج لهذا الإفك وإخفاء حقيقة أنه هو السبب الأول وراء الاحتلال الذي تعرض له العراق، نتيجة سياساته المغامرة، وجهله بالوضع الدولي وتوازناته، وإيغاله في دماء العراقيين. فالذي جلب الاحتلال لا يصلح لأن يكون رمزاً للوطنية العراقية، وهو الذي أهانها ومرغها في التراب، بل تبنى سياسة منظمة لتدميرها من أجل إحكام قبضته على السلطة فأثار البغضاء بين المكونات الاجتماعية للشعب العراقي.
وهل ثمة إفك أكثر من تنصيب من يفتقد ذرة كرامة رمزاً لشعب ووطن. فلو أن لدى صدام مثقال ذرة من كرامة لفضّل الموت على الحفرة التي ألقي القبض عليه مختبئاً بداخلها في ديسمبر الماضي. ولو أنه يعرف معنى للكرامة لكان الموت بالنسبة إليه أهون من وقفته