عزيزتي بتول...
إذا كان الروائي، كما يقول النقاد لا يُعترف به روائياً حتى يكتب روايته الثانية فإنك روائية مع سبق الإصرار. خمسة أعوام تفصل بين روايتك الأولى، التي تُرجمت إلى معظم اللغات العالمية وروايتك الجديدة، التي صدرت هذا الشهر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمّان. خمسة أعوام هزّت العالم بالعراق وهزّت العراق بالعالم، وها هي الفتاة البغدادية تروي قصتها لنفسها في روايتك الجديدة "غائب"، كما في روايتك الأولى "كم بَدَت السماء قريبة". عنوان رسالتي المفتوحة إليك هذه يتضمن الاعتذار عن مقالتي حول روايتك الأولى، التي نُشرت بعنوان "صراع الحضارات في قلب فتيات الأنجلو-أراب". كانت تلك المقالة الوحيدة، التي كتبتها عن الأدب خلال عملي 12 عاماً في صحيفة "الحياة" اللندنية، ونُشرت على الصفحة الأولى في 10 يونيو 1999. شدّني إلى تلك الرواية الغضب والضياع اللذان يؤرجحان بطلة الرواية المنقسمة بين عالمي أبيها العراقي وأمها الإنجليزية، وهو ما شدّ محرري الكتب في نيويورك تايمز ولوس أنجلوس تايمز وصحف عالمية أخرى كتبت عنها. وتابعتُ ويدي على قلبي أخبار جولتك بعد الحرب في الولايات المتحدة وقراءاتك في جامعات رايس وهيوستن وتكساس وواشنطن وبوسطن ونيوجيرسي، وإلى آخره. خشيت أن تضيعي في الرواية الجديدة كضياع أدباء ومثقفين عرب ومسلمين استخدمتهم الأوساط الغربية ضد أوطانهم. وفوجئت بولاء روايتك الجديدة المطلق للعراق في وقت حمل الذل مثقفين عراقيين،- غفر الله لهم- إلى أن يشكروا الرئيس الأميركي، الذي انتهك القوانين الدولية بغزو بلدهم واحتلاله وقتل وسجن عشرات الآلاف وارتكاب جرائم شنعاء ضد سكانه المدنيين تحاسب عليها قوانين الحرب والاحتلال. من أين لك يا بتول هذا الحدب الأمومي على العراقيين، وأنت نصف عراقية من ناحية الأب ونصف إسكوتلندية من ناحية الأم، وسليلة أسرة تملك مصانع وأعمالاً في بلدان مختلفة؟ وكيف تواصلين، وقد ضاع الكثيرون رصد ليس مظهر العراق بل جوهره، ومعاناته، التي هي أعمق من صور تعكسها الصحف، حسب تعبير الكاتبة العراقية الأميركية باسمة بحراني في مقالتها عن روايتك الأولى في صحيفة "يو إس أي توداي"؟
هكذا تبدأ الرواية الجديدة:"جاء في التقرير الطبي ومذكرة الشرطة أن أبي: مهندس النفط، مات قبل أمي، ربّة البيت، بنصف ساعة. حدث ذلك أثناء سفرنا بالسيارة من بغداد إلى مقر وظيفته الجديدة في صحراء سيناء. أدلى شهود عيان بأن لفافة صغيرة طارت من نافذة المقعد الأمامي مع فرقعة لُغم منسي من بقايا حرب 1967. استقرت اللفافة على الرمل: أنا... وهتف ضابط الشرطة: سبحان الله، الطفلة لم تخدش. سلّمها إلى خالتها، باللفافة، التي ما تزال تحتفظ بها في الدُرج السفلي في غرفة نومها وتقرير الشرطة، الذي يعتليه نسر". وتسترسل فتاة الرواية في تفكيك لفائف حياتها مع خالتها وزوج خالتها اللذين احتضناها كأب وأم. أسرة بغدادية من الطبقة المتوسطة المتنورة انحدرت بها الحرب والحظر إلى حافة الفقر دون أن تفقد بغددتها، التي هي مزيج فريد من الإباء والتواضع وروح التهكم والأناقة الروحية.
يقول الأديب الفرنسي اللبناني جورج شحاده "للكذب وجه واحد وللحقيقة وجوه عدة". وروايتك متعددة الوجوه تذهب إلى حد تسجيل إحصاءات لا تنمحي من ذاكرة العراقيين عن عدد القنابل، التي أسقطها الحلفاء عليهم خلال سبعة أسابيع من حرب سنة 1991: أكثر من 88 ألف طن قنابل، أي ما يعادل سبع قنابل نووية بحجم قنبلة هيروشما. هذا يعني، حسب أحد أبطال الرواية أن العراقيين تعرّضوا خلال الحرب إلى ما يعادل قنبلة نووية واحدة أسبوعياً. رقم قياسي لم يحدث مثيل له في تاريخ الحروب. وفي عام واحد من اللاحرب بين نهاية 1998 ونهاية 1999 ألقت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على العراق أكثر من 1800 قنبلة. ويعلّق البغداديون متهكمين على اكتحال مدينتهم بقصف الحلفاء، الذي خلّف خطوطا سوداء على جدران البيوت والأبنية، ألبست المدينة بيجامة سجناء. وتتغنى الفتاة البغدادية بكحل العيون المشهور "لانكوم ضد البَلَل" عندما يعقب القصف هطول أمطار لم تتوقعها الأنواء الجوية سوداء اللون وكريهة الرائحة. وتشغل خالتها مجفف شعرها فينقطع التيار الكهربائي الشحيح ويتوقف المصعد في العمارة ما بين الطوابق وينادي أحدهم: يا بيت أبو غايب، طَفُّوا السَشوار الله يخليكم، عصينا!
أبو غايب زوج خالتها المحروم من الأطفال، ومن هنا اسمه واسم الرواية، نموذج للبغدادي الوطني المتفائل بالفطرة: فشل في أن يصبح رساماً فأنفق مرتباته من عمله كدليل سياحي على اقتناء لوحات للفنانين العراقيين، ورفض العمل بالتجارة مفضلاً إلقاء محاضرات عن آخر تنقيبات المؤسسة العامة للآثار: كنوز نفيسة، معالم بنائية دفينة ولُقىً أثرية في الحواضر القديمة: نمرود، نينوى، الحضر، المدائن. وانغمس بهوى علمي مشبوب في مشروع تجاري فاشل لبناء منحلة لإنتاج العسل انتهى بكارثة مالية والسجن. عندما تقرأ له زوجته أنباء تسرب آلاف الليترات من الغاز وسائ