هل تناط بالإعلام مهمات أخرى غير ما هو معروف تقليديا كالتغطية الإخبارية، وإيصال المعلومات والدفاع عن حق الفرد في المعرفة في وجه محتكري صناعة الخبر سواء أكانوا حكومات أم مراكز قوى أخرى؟ هل تتوسع العملية الإعلامية لتشمل، مباشرة أم بشكل غير مباشر، التأثير في المناخ السياسي العام الذي تشتغل فيه، فتوسع إطاره، أو تساهم في إعادة تعريف عناصره، أو إدخال عناصر جديدة إليه؟ قد تتعدد الأجوبة ووجهات النظر، خاصة عند الاستناد إلى مرجعيات نظرية وأكاديمية بحتة تحصر المسألة الإعلامية بالأداتية الكلاسيكية كما تدرس في مساقات الإعلام الجامعية. المدخل المهم في الإجابة على هذه المسألة هو ظرفية ومكانية المناخ السياسي والاقتصادي والتطوري الذي يعمل فيه الإعلام المعني. بكلمة أخرى فإن ذلك يعني أنه ليست ثمة نظرية جامعة أو جواب مانع يمكن تقديمه ويتمتع بفاعلية الانطباق على كل الحالات من دون اعتبار العناصر الظرفية والمكانية الخاصة بكل حالة. وعليه، لا يغدو من الموضوعي أو العملي الإصرار على الاستشهاد بتجربة الإعلام الغربي كلما ثار النقاش حول واقع وأداء الإعلام العربي. الفارق الأساسي هنا هو أن الإعلام الغربي، الراهن، ينطلق من ظرف تاريخي، سياسي، اقتصادي، ثقافوي، استراتيجي، يختلف تماماً عن مقابله العربي. فإن كانت الاشتراطات الظرفية الخاصة بذلك الإعلام تفرض عليه نمطاً من الأداء، وأجندة معينة من الاهتمامات، وتوزيعاً خاصاً لكيفيات ونوعيات التغطيات، فإن للإعلام العربي اشتراطاته أيضاً، النابعة من ظرفية التطور التاريخي الذي يمر به العرب. وهذه الظرفية ليست ثقافية أو جوهرانية بل محض سياسية اقتصادية اجتماعية لها نظيرات في جغرافيات أخرى، سواء في أفريقيا أو أميركا اللاتينية أو آسيا.
اشتراطات الإعلام الغربي وظروفه، بما فيها مستويات معيشة المجتمعات التي يعمل فيها، أو انقضاء التهديدات الوجودية للبلدان واستقلالاتها، أو التوافق الراسخ على معادلات وطنية ديمقراطية، أو ارتفاع منسوب الإجماع العام، تتيح لهذا الإعلام "ترف" التخفف من مسؤوليات سياسية وطنية. هذا من دون إغفال هبات هذا الإعلام الموسمية التحالفية مع الحكومات في الحالات التي تنخرط فيها المؤسسة الرسمية في معارك وخصومات فيما وراء الحدود – كما حدث في حرب العراق.
في مقابل ذلك، لا يتمتع المناخ العربي العام بأي تشابه مع المناخ الغربي المريح الذي يعمل فيه الإعلام الغربي. وهذا التفارق المنتج لاشتراطات مختلفة يخلق بدوره أدواراً لا مناص عنها للإعلام العربي شاء أم أبى. فهذا الإعلام يعمل في واقع متخلف تاريخياً، متجزئ وحدوياً، ومسدود سياسياً، ومتجمد ثقافياً، ومحبط اجتماعياً واقتصادياً، ولا يستطيع تجاوز هذا الواقع والتخفف من مسؤوليات مواجهته. وهو واقع أيضاً مليء بالتحديات والطموحات بالتغيير نحو الأفضل، حيث تفيض شعارات ومحاولات الدمقرطة والإصلاح والانفكاك من أسر الاستبداد. وهكذا فإن الظرف يفرض نفسه بوطأة حتى لو أراد الإعلام العربي الهروب منه والاختباء خلف شعارات الموضوعية والحيادية والتناول البارد للقضايا. إذ أن أية مقاربة إعلامية لأية مسألة عربية سوف تصطدم سريعاً بواحد من تلك المآزق. وهنا يبرز السؤال كيف يمكن للإعلام أن يتعامل مع ذلك المأزق؟ وحتى لا يظل الكلام تجريدياً يفيد تناول بعض أمثلة تلك المآزق حتى تقرب من المعالجة وإدراك بعض أعماق المسألة. فإن كان الأمر المطروح مثلاً في ظرف ما متعلقاً بحقوق الإنسان، أو باضطهاد تقوم به حكومة عربية ضد معارضة سياسية أو مجموعة ما، فكيف يمكن للإعلام أن يتعامل معها؟ هل هناك حيادية يمكن أن يتمترس وراءها الإعلام ومن خلفها يعامل القامع والمقموع على قدم المساواة؟ هل يمكن أن يحايد الإعلام مسألة التضاد بين استبداد طاغ في المنطقة وحرية مأمولة؟ هل يمكن أن يحايد الإعلام مسألة الديمقراطية؟ المعضلة التي تواجهها أية حيادية إعلامية إزاء هذه المسائل ستقود إلى تورط مواقفي لا مهرب منه. فالحياد إزاء الديمقراطية والاستبداد يعني مداهنة الاستبداد، والحياد إزاء القامع والمقموع يعني الانحياز للقامع. هذه الأسئلة والمعضلات لا يواجهها الإعلام الغربي ولا تشكل محددات لدوره الداخلي في تشكيل الوجهة الوطنية التي تتجه إليها تلك المجتمعات.
وهكذا، وفي ظرف كالذي نمر فيه فإن الإعلام العربي يُنظر إليه من قبل ملايين متابعيه بكونه صاحب دور، وليس فقط وسيلة ناقلة للخبر والمعلومة. ويحاسبه الجمهور على توجهاته وانحيازاته الداخلية والخارجية. والإعلام العربي الجديد، المتمثل بالفضائيات، تميز عن الإعلام السابق له، أو الحكومي الحالي، بأنه وفر متنفساً لكثير من الذين حرمهم وأقصاهم الإعلام الحكومي. وأنه وفر أيضا متنفساً لكثير من القضايا التي كانت من المحرمات وشبه المحرمات عند الإعلام الحكومي. وأنه بالمجمل ساهم بجدارة فائقة في خلق فضاء سياسي عام كان ربما شبه الوحيد في السنوات القليلة الماضية الذي تمتع بحرية تداول المعلومة والفكرة رغم الكث