روت لي كندية مسلمة أنها صارت تلاحظ من زياراتها النادرة والقصيرة للعالم العربي "أن هناك علاقة تفاعلية وطردية بين ازدياد الحجاب وازدياد الراقصات والخليعات والبرامج السخيفة"... وهذا ليس غريباً. فهذا يعبر تماماً عن نظرة المجتمع الذكوري إلى المرأة التي يختزلها في دورها الجنسي البيولوجي. فهي إما راقصة، وإما راهبة إن كانت أماً أو زوجة... في ازدواجية عميقة، ولذلك لا أستغرب من الإشكاليات التي أتوقع أنها ستزيد. والمشكلة أنه حتى الموسيقى عندنا اختصرت في الرغبات الهابطة والسخافات أو أنها حرام وهي ليست الاثنين. لأن الموسيقى شيء فطري والطبيعة كلها موسيقى والإنسان بشكل طبيعي يتفاعل ويتجاوب (حتى بدون إرادته للأصوات الجميلة) وكما قال المغني بونو (الملتزم سياسياً وثقافياً) إن اللحن الجميل كان موجوداً منذ الأزل لأنه كله رياضيات ولهذا تستجيب له الأذن طبيعياً، وإن الموسيقيين يكتشفون شيئاً كان دائماً موجوداً. ونحن حرمنا وهمشنا وسخفنا الموسيقى رغم أننا من أوائل من استعملها، مثل الكندي. وفي مشفى الرازي في العصر العباسي كانت علاجاً للمرضى. وهي عند الصوفية للتسامي الروحي. ولكننا حكمنا عليها بأن تصير في الزوايا، وتحت الأرض، وبشكل مشوَّه، وما يزال التشوُّه ماضياً في سبيله. فإن كانت عندنا أم كلثوم في الخمسينيات تغني حديث الروح فنحن الآن ماتت الروح عندنا نهائياً، وصارت نانسي ونوال الزغبي تغنيان نفس الأغنية مرة وراء الأخرى... وسيظل الأمر يزيد سوءاً حتى تتوازن الأمور ونعيد اكتشاف العلاقة الطبيعية بين الإسلام والجمال... "قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده" ولكننا قلبنا المفاهيم فأصبح القابض على دينه كالقابض على جمرة، وأن الجنة حفت بالشهوات، مع أن القرآن يقول لنا "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى". بل إن الذي يعرض عن ذكر ربه هو الذي سيعيش حياة ضنكاً في الدنيا ويحشر أعمى في القيامة... لأنه لم ير جمال ونظام وانسجام الكون في الحياة الدنيا.
وهكذا نحن الآن نعيش ثقافة الخوف من الجمال ونظن أن علينا أن نعيش في هذه الحياة في القباحة والمدن المغبرة والنساء المطرقات رأساً. حتى الأزهار ذبلت في العالم العربي، والأشجار ماتت والعصافير هاجرت. وما يكتبه العرب أدباً وشعراً ومقالات أكثره قادم من خارج "الوطن". حتى الكلمات هاجرت... حتى الأشعار صارت في المنفى. والمجتمع الذي يحرم الطيبات والزينة والجمال ستظهر فيه الفواحش والإثم والبغي والعدوان. آمنا بالإكراه فمُسخنا.... وآمنا بالقباحة والعذاب والعنف فلننظر ماذا يفعل الله بمن يؤمن بالإكراه... صرنا كالعصف المأكول. لننظر أين جمال مدننا ونظافة شوارعنا ونزاهة مجتمعاتنا؟ لم نعد نعرف ماضينا، ولا نعرف الحاضر الذي نعيشه أيضا. حرمنا الموسيقى فلننظر ما صار الآن للموسيقى. طبعاً سيحدث هذا عندما تكون أم كلثوم في النار وكل ما فعلته حرام. هذا ما قالته لي مجموعة من نسوة كنت أظنهن منفتحات ومعتدلات، ولكن رفضن نهائياً أن أقول عنها إنها كانت فنانة محترمة عظيمة مارست الفن باحترام وقدمت شيئا جميلا للثقافة العربية الحديثة. صدمن من كلامي، واحمرَّت الوجوه... وصرن يقلن، كانت تقف لساعات تغني عن الحب، والغرام. قلت إنها كانت قارئة للقرآن ومصلية وحاجة... وإن الغناء عن الحب ليس جريمة، ولكن توجه الحديث في أي نار ستحرق؟. تركت الحديث لأني شعرت أني لم أعد أسمع ما يقلن... هذه هي ثقافاتنا... كل ما يحدث في العالم العربي طبيعي بل وقليل... "وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا".
ما زلنا مثل المراهق الذي لا يعرف الصحيح من الخطأ. عنده أم أصولية وأب علماني... ماذا يفعل؟ يكاد يجن. يحاول أن يكون علمانياً بملابس أبيه، أو أصولياً بملابس أمه حتى ينسجم مع الاثنين، وفي كلتا الحالتين الاثنتين يصرخان عليه. ما يزال المسلم مراهقاً يتخبط. لذا كل ما نراه من الخلاعة، والرقص، وقطع الرؤوس والهروب إلى جبال "تورا بورا" والموسيقى الهابطة والديكتاتورية التي تزداد يوما بعد يوم والأصولية المنتشرة والأدب والفن المختنقان، كلها علامات على ثقافة وصلت إلى حافات الجنون. ليست القضية امرأة أو رجلاً، بل قضية ثقافة وهوية وأزمة تكيف، ولذلك تعالوا نهدأ قليلا، ونفكر ونحلل ونقترح بدل أن نصدر أحكاماً على هذا المراهق الذي اختلطت عليه الحداثة، والتراث، والأصالة، والعولمة والترفيه والتكيف الحضاري، والتكيف مع العصر. ماذا عليه أن يفعل؟ كيف سينمو؟ كيف سيخرج من رحم آبائه المسلمين، ويكبر بين أعمامه الغربيين؟ كيف؟ كيف؟