"سيكون لدى هذه السفارة ألف موظف يجثمون بخوف خلف أكياس الرمل. لا أدري كيف تمارسون الدبلوماسية بتلك الطريقة". هذا كلام "إدوارد ل. بيك" السفير الأميركي إلى العراق (1977-1980) كما أوردته صحيفة "بوسطن غلوب" يوم 26 يونيو الماضي.
ومن أسرار السلك الخارجي الأميركي المعروفة أكثر، هناك مقدار الوقت الضائع الذي يفرضه هذا السلك على موظفيه. وهذا يعني الوقت الذي يضيع في انتظار وصول وفود "الكونغرس" إلى المطارات، وفي الاجتماعات المطوّلة المعنية بتنسيق نشاطات السفارة، وفي معالجة شؤون الفرق المتقدمة المرسلة لاتخاذ ترتيبات الزيارات الرئاسية، وفي التعامل مع نظام شؤون الموظفين المعقد إلى حد غريب في واشنطن.
هناك الكثير جداً من الوقت الضائع، وهو ما يعيق قيام موظفي السلك الخارجي الأميركي بالعمل الذي يتقاضى كثيرٌ منهم أجراً عليه ممّا يقدمه دافع الضرائب، والذي يقتضي منهم مراقبة المجتمع من حولهم والتواصل مع عناصره الأهم، وتقديم معلومات وأفكار جديدة لصياغة السياسة والتفاوض مع حكومة البلد المضيف حول المسائل الثنائية ومتعددة الأطراف.
وعلى رغم كل النوايا الحسنة المعلنة، قطعت السفارة الأميركية الجديدة في بغداد وعداً بأن تكون أمّ كل مصانع الوقت الضائع، بغض النظر عن مقدار صعوبة الطريقة التي سيؤدي بها موظفو السلك الخارجي مهماتهم. واستناداً إلى خبرتي لأكثر من 20 سنة في السلك الخارجي، بما فيها جولات الخدمة في أكثر من 6 سفارات أميركية، أرى الآن العديد من الطرق التي يمكن بها لحجم ودرجة تعقيد البعثة الدبلوماسية في العراق- التي ستصل تكاليف إدارتها إلى مليار دولار في 2005- أن يؤديا إلى تعقيد، إن لم يكن تقويض، عمل 190 من موظفي السلك الخارجي الذين سيتم تعيينهم في تلك البعثة.
أولاً: هناك حجم السفارة بحد ذاته. فمع نهاية العام الحالي، من المتوقع أن تضم نحو 1000 أميركي من 10 وكالات حكومية، إضافة إلى نحو 600 موظف عراقي، ما يجعلها البعثة الدبلوماسية الأميركية الأكبر في العالم. وبوجود الكثير من الجثث هنا وهناك، من الصعب أن نحدد بالضبط ماهية الفعل وهوية فاعله، وهكذا سيجري قضاء وقت غير محدد في اتخاذ قرارات التعيينات والمسؤوليات. أمّا الحروب حول نطاق الاختصاص والصلاحيات فهي أمر نموذجي في بيروقراطية السياسة الخارجية في واشنطن، وهي ستكون القاعدة السائدة لأن كل وكالة تسعى إلى تحقيق مصالحها.
ثانياً: هناك جولات الخدمة التي سيقوم بها موظفو السلك الخارجي والتي لن تدوم لأكثر من سنة واحدة، وهي تشتمل على إجازة كل ثلاثة أشهر وعلى السفر إلى الولايات المتحدة مرتين كل سنة. فما هو مقدار العمل الحقيقي الذي سينجزه موظف السلك الخارجي في سنة واحدة؟ هناك حكم يستند إلى التجربة في السلك الخارجي، ومفاده أن تأقلم الموظف الجديد مع وظيفته يستغرق على الأقل 3 أشهر، مهما كان مقدار "التدريب" السابق الذي تلقاه في واشنطن. وعندما يصل موظفو هذه السفارة الجديدة إلى إدراك كلّي لمكانهم ولكيفية أدائهم لأعمالهم بفعالية، سيكون أوان مغادرتهم قد حان.
ثالثاً: بوجود الاندفاع إلى تزويد هذه البعثة الدبلوماسية بالموظفين، هناك شك في أن الكثير من موظفي السلك الخارجي في السفارة سيكونون مستعدين لرصد المجتمع العراقي والتعامل معه، مهما كان مقدار تفانيهم في خدمة علم بلادهم (هذا إذا استطاعوا الخروج من المنطقة الخضراء الآمنة المعروفة أيضاً باسم "مدينة الزمرّد" وفيها مقرّ السفارة الجديدة). فكم عدد الأميركيين في هذه البعثة الذين سيتحدثون باللغة المحلية؟ وكم منهم سيكون قادراً على قراءة الصحف العراقية المحلية؟ بوجود عملية التولي السريع للمسؤوليات والسفر "إلى الخارج"، كم عدد من سيتمكنون من تأسيس علاقات مع العراقيين من شأنها أن تؤدي إلى مناقشات مهمة حول تحطّم العلاقات الثنائية، ناهيك عن الحلول الممكنة؟ سيضطر موظفو السلك الخارجي إلى الاعتماد على العراقيين العاملين في السفارة لكي يفهموا ما يجري خارج قلعتهم المحصنة خلف أكياس الرمل. لكن أي موظف خبير سيقول لكم إن الاعتماد على النظرة العميقة للموظفين المحليين لن يكفي، مهما كانت درجة تفانيهم وجدارتهم بالثقة. ولذا لابدّ لموظفي السلك الخارجي من الحصول على المعلومات بأنفسهم لكي يتصفوا بالفعالية.
رابعاً: الوضع الأمني الخطير يعني أن السفارة ستواجه صعوبة كبيرة في تنفيذ إحدى أهم وظائفها، وهي تنفيذ برامج الدبلوماسية العامة، كإقامة العروض الثقافية والإعلامية سعياً إلى كسب عقول وقلوب سكان البلد المضيف، وهي نشاطات تتطلب اتصالاً دائماً ومفتوحاً مع جماهير البلد المضيف. لكن وجود العداء الثائر في وجه الأميركيين في العراق، والتمرّد المستشري يعني أن البرامج ستؤكد على أنها مهمة مشحونة بالتحديات، هذا إذا لم تكن مستحيلة. فكم عدد العراقيين الذين سيتم السماح لهم فعلاً بدخول السفارة الأميركية المحصنة العازمة على حماية نفسها من "الإرهابيين" أو من "الأشرار"؟
خامساً: ستتلقى السفارة الأميركية زيار