لم أستغرب وأنا أشاهد فيلم "فهرنهايت 9/11 " للمخرج الأميركي "مايكل مور"، أن الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين طلب مشاهدته من ضمن طلباته بعد لقائه الشهير مع قاضي التحقيق العراقي. ففيلم "مور" بيان سياسي لاذع وساخر ضد إدارة الرئيس "جورج بوش" وحربها ضد العراق. و"مور"، الذي يعد من اليسار الليبرالي، اشتهر أساساً من خلال نقده للتوجه اليميني الغالب في السياسة الأميركية في الفترة الأخيرة وبصفة خاصة سياسات الإدارة الجمهورية الحالية. ومن ضمن أعماله كتابه الشهير "رجال بيض أغبياء" وفيلمه الوثائقي الناقد للوبي السلاح المتنفذ على الساحة الأميركية في عمله عن مدرسة "كولومباين" الثانوية.
وفي فيلمه الجديد "فهرنهايت 9/11" تبرز موهبة وحرفية "مور" السينمائية في هذا العمل المبهر، والذي لا شك أن نجاحه الجماهيري على الساحة الأميركية سيؤثر على الإدارة الحاكمة، حيث شبهت بعض التقارير الصحفية التأثير السياسي للفيلم بمناظرة "كنيدي" و"نكسون" الشهيرة التي يرى المؤرخون أنها الحدث الأهم الذي رجح فوز "كنيدي". وقد يكون مثل هذا التكهن سابقاً لأوانه ولكنه مؤشر على نجاح هذا الفيلم وإمكانية تأثيره الانتخابي. وفي هذا السياق لابد من الإقرار بأن تدخل إدارة "بوش" في العراق يكاد يتحول إلى نقمة انتخابية. وجُهد "مور" السينمائي يأتي في فترة شهدت وتشهد الساحة الأميركية فيها العديد من التقارير الرسمية التي تدين مصداقية المعلومات التي استند إليها قرار الإدارة بغزو العراق، وآخر هذه التقارير ذلك الصادر عن لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي. ولا نضيف جديداً حين نشير إلى أن فشل الإدارة الأميركية في اكتشاف أسلحة الدمار الشامل العراقية قسم الجبهة الداخلية الأميركية وفتح الأبواب على مصراعيها لانتقاد الحرب برغم محاولة الإدارة ربط هذه الحرب بحربها على الإرهاب.
وعمل "مور" لا يدخل ضمن قائمة الأعمال المحايدة التي تسعى، وبطريقة منهجية، للخروج بقراءة عقلانية لسياسة "بوش" العراقية، بل وكما ذكرت فنحن أمام عمل سياسي واضح يستهدف الرئيس "بوش" وحلفاءه من اليمين المحافظ، وفي هجومه هذا يلجأ "مور" إلى مقاربة واضحة ومتكررة على الساحة الأميركية. وهذه المقاربة تدين ما يعرف بالمؤسسات الصناعية والعسكرية، التي يرى متبنو هذه الفكرة أنها هي التي تسيِّر السياسة الأميركية، وتقدم مصالح الشركات الضخمة على المصالح القومية الأميركية. ولأنه العراق ولأن الرئيس الأميركي من تكساس وعمل في المجال النفطي، يركز مور على الجانب النفطي ويضيفه إلى شركات السلاح التي يرى أن مصالحها كانت غالبة في قرار الحرب على العراق. كما أن هذا الفيلم يعد من ضمن تيار بارز في الحياة السياسية الأميركية وهو التيار المعارض للحرب والمعارض لإرسال الشباب الأميركي في مغامرات عسكرية خارجية. وكما نتوقع من مخرج ناجح كـ"مايكل مور" فنحن أمام عمل ممتع وساخر يكرر نجاحاته السابقة في الجمع بين الرسالة السياسية، والحبكة الروائية، والتقنية العالية، والأرشيف الوثائقي الكبير، برغم أنه يتناول موضوعاً جاداً.
ومع هذا فلابد من أن نضيف أن الفيلم يقع ضمن سيناريوهات نظرية المؤامرة ولكن على الطريقة الأميركية، ونلحظ ذلك في تناوله للعلاقة المعقدة بين الحكومة الأميركية وبين المملكة العربية السعودية. وفي هذا الجانب يكرر "مور" العديد من الملاحظات التي وردت على الساحة الأميركية غامزة من القناة السعودية، وبناء مثل هذه الصورة ممكن باستخدام أرشيف علاقة ممتدة وحميمة بين واشنطن والرياض. ولا شك أن تحرير العديد من الصور واللقاءات من إطار المكان والزمان وكما فعل ويفعل "مور"، يقدم للمشاهد صورة تجذر فكرة علاقة تقوم على المصالح الشخصية وخاصة في جوانب الطاقة والاستثمار. وتساهم هذه العلاقة في تقديم إدارة "بوش" أمام الشعب الأميركي كإدارة تحركها علاقات خارجية مشبوهة، ومصالح ضيقة حدودها شركات النفط والطاقة والسلاح. ومثل هذه الملاحظة قد تعد سلبية من وجهة نظر البعض، ولكن ذلك لا يلغي حقيقة أننا أمام عمل سينمائي سياسي من الدرجة الأولى، عمل يتبنى خطاً سياسياً واضحاً يستهدف الإدارة الجمهورية ويسعى إلى تفنيد حججها التي أدت إلى غزو العراق. أما التأثير السياسي للفيلم في الانتخابات المقبلة فلاشك أن الأيام القادمة ستكشف لنا درجته.