في شهر يونيو المنصرم، وقعت كل من الولايات المتحدة الأميركية والمغرب، اتفاقية تجارية ثنائية فيما بينهما. وتفاخر إدارة بوش، بأن الاتفاقية المذكورة تقف دليلا ناصعاً على قدرة سياساتها الاقتصادية، على بناء صداقات وعلاقات جديدة مع الآخرين حول العالم. وإن صح ذلك، فإنه يكتسب أهمية خاصة في منطقة مثل الشرق الأوسط، الذي يبدو أن السياسات الخارجية الأميركية فيه، قد خلفت وراءها ما يستحق الوقوف عنده. ذلك أن التعاون المستمر مع الحكومات العربية المعتدلة، قد هدف في الأساس، لإظهار سعة أفقنا، ورغبتنا في منح الجزرة- وليست العصا- لأولئك الذين يظهرون قدراً من المعقولية والاتزان في سلوكهم. غير أن ما يؤسف له، هو أن الإدارة الأميركية، قد لجأت إلى استخدام النهج ذاته، الذي أورثنا المزيد من الكراهية والعداء، على نطاق العالم بأسره، أثناء خوضها التفاوض التجاري الثنائي، مع المغرب وتشيلي وغيرهما من الدول الفقيرة المستضعفة. ذلك أن الاتفاق الثنائي الأخير مع المغرب، يكشف عن اتفاقات أملتها المصلحة الاقتصادية الخاصة، أكثر مما تمليها اعتبارات مراعاتنا لخير وسعادة شركائنا الاقتصاديين المستضعفين في الدول النامية مثل المغرب. يذكر أن الاتفاق التجاري الأخير بين واشنطن والرباط، قد حظي بتأييد المعارضة المغربية، وهو أمر نادر الحدوث في دولة لا تزال تبطئ في سيرها نحو الديمقراطية. غير أن الذي يخافه الكثيرون من المغاربة، أن تصبح العقاقير الطبية غير المحمية قانوناً، المستخدمة في علاج مرض نقص المناعة المكتسبة "الإيدز"، أكثر ندرة في بلادهم، مما هي عليه في الولايات المتحدة. ومن جانبها ترى منظمة Association de Lutte العاملة في مجال مكافحة الإيدز في المغرب، أن الاتفاقية المبرمة بين الجانبين، ربما ترفع المدة المعروفة لحماية براءة الاختراع في مجال الأدوية -المحددة عادة بعشرين عاماً- إلى ثلاثين عاماً.
هذا ولا يعد المغرب الدولة الوحيدة التي تبدي قلقاً ملحوظاً إزاء وفرة الأدوية المنقذة للحياة فيها. فقد استخدمت الولايات المتحدة عضلاتها الاقتصادية في كافة الاتفاقيات الثنائية التي عقدتها مع عدة دول أخرى، بغية مساعدة شركات الأدوية والعقاقير الطبية العملاقة، على حماية منتجاتها من المنافسين الصغار من منتجي الأدوية غير المحمية قانوناً. وعليه، فإن تطبيق مثل هذه السياسات، في معرض إبرام اتفاق تجاري بين أميركا وتايلاند، لا يعد أمراً أكاديمياً فحسب، بالنظر إلى خطر الإيدز الحقيقي الذي تواجهه دولة مثل تايلاند.
وفي هذا الجانب بالذات، تبدو سياسات الرئيس بوش مربِكة ومتناقضة، بل حتى منافقة. فهو من ناحية يتحدث عن تدشين حملة عالمية لمناهضة الإيدز، بل وخصص مبالغ مالية مقدرة لدعمها. ولكن ما يعطيه الرئيس بيده اليمنى، يؤخذ مباشرة باليد اليسرى. وفي ظني الشخصي، أن غالبية الأميركيين، ستقف وراء الأدوية غير المحمية قانوناً، طالما أن تلك الأدوية تسهم بشكل ملحوظ في إطالة أعمار متعاطيها، بصفتها أدوية منقذة للحياة. ومما لا شك فيه أن خسارة شركات الأدوية ستكون ضئيلة، سيما مع ما تحظى به من تخفيضات ضريبية كبيرة.
ولكن إياك أن تظن أن الأدوية هي المجال الوحيد الذي استخدمت فيه واشنطن عضلاتها، في سبيل خدمة وتعزيز مصالحها الاقتصادية الخاصة، قبل أي شيء آخر. ففي الاتفاقية الثنائية التي عقدتها مع تشيلي مثلا، قيدت حركة هذه الأخيرة في تنظيم وتقييد حركة أموال المضاربة، أو ما يعرف بالأموال "الساخنة" أي تلك الأموال التي تستطيع عبور حدود الدولة ومغادرتها بموجب إشعار لا يتجاوز بضع دقائق لا أكثر! وكانت تشيلي قد أدركت قدرة رؤوس الأموال تلك، على خلق حالة من عدم الاستقرار المالي والاقتصادي، فسعت إلى وضع قيود عليها، وفرض ضرائب معقولة على حركتها. وفي وسع مثل هذه الإجراءات أن تعود على تشيلي بفوائد مالية كبيرة، ربما تصل إلى 7 في المئة سنوياً، في وقت مبكر من بدايات التسعينيات، موعد إبرام الاتفاقية المشار إليها مع واشنطن.
وقد حدث ذلك في تشيلي بشكل خاص، لأنها- وخلافاً لما هو عليه حال دول أميركا اللاتينية الأخرى- لم تكن بحاجة إلى مواجهة كل تلك الفوضى العارمة، التي تحدثها رؤوس أموال كبيرة، تعبر الحدود إلى الداخل في ومضة خاطفة من الزمن، وتعبرها خروجاً بالسرعة نفسها. اليوم يعترف حتى صندوق النقد الدولي نفسه، بأن تحرير أسواق رؤوس الأموال، يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار المالي والاقتصادي في الدول، بدلا من أن يؤدي إلى تسريع عجلة النمو الاقتصادي كما يعتقد.
وفي قطاع الاتصالات أيضاً، فرضنا على المغرب وغيره من الدول التي أبرمنا معها اتفاقات اقتصادية أو تجارية ثنائية، نظماًً وأجهزة إرسال، ما كان لنا أن نسمح لأي أحد كان، أن يفرضها علينا لو كنا نحن محل تلك الدول. لهذا فإن من الطبيعي أن تكون صورة مثل هذه الاتفاقات- في منظور الدول النامية- صورة لسيادة وهيمنة "الأخ الأكبر" الذي تتركز بيده وحده كل القوة، في الاتفاقات المبرمة. أما في الجانب ا