في الحقيقة إن كافة التقارير الاقتصادية العربية والدولية تؤكد على أن هجرة الموارد البشرية العربية، وهجرة رؤوس الأموال العربية إلى الدول الصناعية الغربية تعتبر من الظواهر الاقتصادية والاجتماعية السلبية التي أصبحت مألوفةً ومؤرقةً لكافة المثقفين والمهتمين من أبناء الوطن العربي. فالموارد البشرية، وبشكل خاص تلك الموارد ذات المهارات والكفاءات العالية، ورأس المال يعتبران عنصرين رئيسين من عناصر الإنتاج. وبالتالي فإن نزوحهما بهذه الصورة يعتبر استنزافاً للثروة القومية يترتب عليه الضعف العام في البنية الاقتصادية الأساسية التحتية منها والفوقية، وينعكس بدوره في ضعف الهياكل الإنتاجية، ومن ثم ضعف وتدني مستوى التنمية الاقتصادية في العالم العربي بكامله. ويشكل في الحقيقة عقبة كؤوداً أمام خطط واستراتيجيات وبرامج التنمية الاقتصادية والإدارية. فهل تكون الظروف الراهنة مهيئة لأن تدفع بالعقول العربية ورؤوس الأموال العربية للعودة إلى العالم العربي؟. على الرغم من أهمية العنصرين وتفاعلهما معاً في العملية الإنتاجية، إلا أنه لا يمكننا الحديث عنهما معاً في مقالة واحدة. ولذلك فقد خصصنا هذه المقالة لتحليل إمكانية عودة الرساميل العربية إلى العالم العربي.
ولا يمكن في الحقيقة إعطاء رقم دقيق لحجم الرساميل العربية المستثمرة والموظفة في الدول الأجنبية، وإن كان البعض يرى أنها تتجاوز تريليون دولار أميركي. ويرجع السبب في صعوبة حصرها إلى مبدأ الخصوصية والسرية المصرفية، وسهولة تحويل الرساميل ذاتها. ونلاحظ أن تلك الرساميل تأتي من ثلاثة مصادر هي الآتي:
1- القطاع الحكومي (ممثلا بمختلف الجهات الحكومية).
2- قطاع الأعمال (أي وحدات الإنتاج بمختلف أشكالها وطبيعتها القانونية).
3- القطاع العائلي (أي الأفراد).
أما بالنسبة للقطاعات والجهات التي تتدفق إليها تلك الرساميل فيمكن ترتيبها من حيث أهميتها للمستثمر العربي كالآتي:
1- القطاع المصرفي: وتتدفق الأموال إلى هذا القطاع من كافة القطاعات الثلاثة التي ذكرناها، حيث تستقر فيه على هيئة ودائع مصرفية بمختلف أشكالها وأنواعها. ويسمى ذلك توظيفاً للأموال وليس استثماراً حقيقياً ملموساً، ولكنه يظل فوق ذلك صورة من صور الاستثمار الخالي من المخاطر. بيد أن النظريات الاقتصادية تؤكد على أن المستثمر الرشيد الناجح لابد وأن يقارن بين فرص الاستثمار المتاحة لديه من جهة وبين معدلات الفوائد المصرفية الجارية والمتوقعة على الودائع المصرفية، وذلك لكون فقدان فرصة الحصول على الفوائد المصرفية يعتبر بمثابة تكلفة الفرصة البديلة (أو الضائعة) على المستثمر. وهو ما عرفه الاقتصادي "كينز" بالكفاءة الحية لرأس المال. والمعروف بالطبع أن تكلفة الفرصة الضائعة تعتبر تكلفةً داخلةً في حسابات الجدوى الاقتصادية للمشروع. وتؤكد نظريات الاستثمار على ضرورة تنويع الاستثمار تنويعاً قطاعياً في مختلف الأنشطة الاقتصادية، وتنويعاً جغرافياً في أماكن ودول مختلفة، وذلك من أجل التقليل من مخاطر الاستثمار. ومن هذا المنطلق نجد أن فلسفة النظام الرأسمالي في القطاع المصرفي تقوم على ضمان الودائع المصرفية والفوائد عليها وضمان الائتمان المصرفي والفوائد عليه، وهو ما يتعارض تماماً مع فلسفة المصارف الإسلامية من حيث المبدأ وإن كان يتشابه معها في التطبيق. حيث ينظر النظام الرأسمالي إلى عملية الضمان تلك لكونها صمام الأمان الممكن الاستجارة به وقت الشدة والأزمات. وقد تكون فلسفة الضمان هذه هي العامل الرئيس في جذب تلك الأموال الضخمة إلى الدول الأجنبية.
2- القطاع المالي: ونقصد بذلك بالطبع الاستثمارات العربية في البورصات العالمية، والتي تتنوع وتتعدد أشكالها، فمنها الاستثمارات طويلة الأجل ومنها قصيرة الأجل، ومنها المضاربات ذات المخاطر العالية. حيث يركز القطاع الحكومي على السندات وأذون الخزانة التي تصدرها الحكومات الأجنبية القوية، وذلك نظراً للضمانات التي تتميز بها تلك السندات من حيث قيمتها واستحقاقها والعائد عليها. كما يركز القطاع الحكومي كذلك على الاستثمار في معدني الذهب والفضة وتكوين احتياطيات منهما. ويعتبر الاستثمار في هذين المعدنين استثماراً حقيقياً مضموناً إلى حد كبير من حيث القيمة في الأمد البعيد، وذلك عند مقارنته بالقيم الحقيقية لوحدات النقود التي تنخفض باستمرار بفعل ظاهرة التضخم النقدي. والحقيقة أن القطاع الحكومي يميل إلى الابتعاد عن الاستثمارات الأخرى في أسواق المال، وذلك لكون الأموال الحكومية أموالاً عامةً يصعب استثمارها في استثمارات ذات مخاطر متوسطة أو عالية. ولقد لاحظنا بالفعل كيف أن بعض الحكومات الخليجية والعربية قد تعرضت للمخاطر وخسرت عندما جازفت في استثمارات ذات مخاطر عالية. وتقيم الحكومات العربية أجهزة استثمار متخصصة لإدارة واستثمار أموالها في الخارج، إضافةً بالطبع إلى الدور الذي تقوم به المصارف المركزية أيضاً. أما بالنسبة لقطاع الأعمال والقطاع العائلي فنجدهما يستثمر