وضع العرب كل مشاكلهم السياسية والاقتصادية والتنموية جانباً، وانشغلوا بتوفير محاكمة عادلة للقائد الفذ... صدام حسين! معارك سياسية وقانونية في عمان بالأردن، ومئات المحامين يتطوعون مجاناً وبكل حماس للدفاع عن القائد الضرورة الذي أطاحت به الأطماع الأجنبية وتآمر عليه كل أعداء الأمة في المشارق والمغارب. عائشة ابنة الرئيس القذافي، اقتطعت ملايين أخرى مما بقي من ثروات الشعب الليبي بعد أن صرفت "الجمعيات الخيرية" هناك المليارات لإرضاء ضحايا طائرة لوكربي والطائرة الفرنسية وربما المقهى الليلي في برلين. نقول إن السيدة عائشة القذافي اقتطعت مبالغ جديدة، والشعب الليبي بالطبع آخر من يُستشار في الحالتين، لتغطية أتعاب المحامين والحملة الإعلامية التي سترافق المحاكمة. محامو الأردن وغيرهم من "المحامين العرب" اكتشفوا فجأة الأصول القانونية والشرعية للأنظمة العربية القائمة، وضرورة أن يكون النظام شرعياً منتخباً كي تكون محاكِمهُ عادلةً وأحكامُه صحيحةً. ولكن هل التفت هؤلاء المحامون حولهم جيداً؟ وهل درسوا بدقة أطنان الوثائق التي تدين موكلهم في مسيرته الإجرامية على امتداد عقود وعقود؟
ماذا يقول محامو الأردن والعالم العربي لطغاة الشرق الأوسط؟ يقولون لهم بصراحة: اقتلوا واسحلوا، ابطشوا و"الطشوا" كما يحلو لكم، فستجدون، مهما كانت درجة تورُّم ملفاتكم الإجرامية، من بين أبرز وأشهر المحامين في المنطقة، من يتولى الدفاع عنكم، وإخراجكم كما تُستلّ الشعرة من العجين! بل ولعل السيدة "عائشة القذافي" قد دخلت هذا المجال كي تعرف خطواته الإجرائية جيداً، وتتعرف على أبرز محامي الطغاة، لأنها تعرف حتماً، على من قد تدور الدوائر في القريب العاجل!
كبار القانونيين والمحامين في الأردن وغيرها تنادوا على عجل وبهمة رفيعة، وهنا العجب، للدفاع عن رئيس لم يوفر محاكمة ربع عادلة لأحد معارضيه داخل أو خارج العراق. رئيسٌ، كان يصدر أحكام التعذيب والقتل بأبشع السبل على أقرب رفاقه في الحزب، بل ويشرف أحياناً شخصياً على تنفيذ التعذيب والقتل... والسيجار في فمه كما زعماء المافيا!
رئيسٌ، لم يدمر العلاقات العربية فحسب، ولم يحطِّم حياة الشعب العراقي، ويجهز على كل معارضيه، وينهب ثروات البلاد، ويقتل مئات الآلاف بمختلف الوسائل فقط، بل أجهز على المحاكم العراقية والحياة القانونية، وقضى بشكل مُبْرم على استقلال القضاء. ثم هل نسي محامو الأردن والعرب ما كان يفعله أبناء صدام وكبار رجال نظامه وأجهزته القمعية برجال ونساء وقضاة ومحامي العراق؟
ولم يكن "القائد الضرورة"، الذي يحاول محاموه اليوم أن يعلقوا على رأسه هالة البطولة وعلى صدره نياشين الصمود والمقاومة، يمتلك ذرة من شجاعة أو شرف الأبطال. ولو كان يحوز شيئاً من الاثنين لآثر المقاومة والموت، على ذلك الفحص المذل لأسنانه وفمه وضرس العقل واللهاة، بعد استلاله من جحره الشهير، ولتجنّب "العرض الثاني" مكبلاً بالسلاسل أمام كاميرات العالم!
فما وجه البطولة يا أهل القانون والمحاماة، في زعيم يرسل زهرة شباب العراق إلى ساحات القتال والموت والوغى، ويكمن خائفاً مرتعباً في جحر في تكريت، متمنياً أن يقع بيد الأميركان... لا العراقيين؟!
ليس الرجل إذن مناضلاً ولا بطلاً ولا مقاوماً. هو ليس غاندي أو مانديلا. إنه مغامر سياسي شق طريقه صاعداً، مطلقاً النار على كل من يقف في سبيله أو يضعه حظه العاثر أمامه! وحتى بعد أن تم اصطياده صاغراً ذليلاً، لم تسأل النخبة القانونية الأردنية والعربية نفسها: ما لنا وهذا الرجل؟ ماذا يمثل عربياً وإنسانياً كي نجند كل هذه الإمكانيات للدفاع عنه؟
لماذا كل هذا الولع في بلداننا وثقافتنا بالقائد المهزوم الذي يُهندس بدقة هزيمته واندحاره؟ لا أحد يدري! لماذا لا يقارن محامو الأردن والعالم العربي بين شعارات العدالة والديمقراطية والتحديث التي يشيرون إليها في كل ندوة ولقاء و"بيان ختامي"... وبين ما فعله صدام بالعراق؟ كيف يمكن للأردن مثلاً أن ينافس إسرائيل في اجتذاب ثقة العالم الخارجي ومستثمريه وهذا حال محاميه؟!
أجل أكثر من 1500 محام وخبير قانوني عربي ودولي يساندون هيئة الدفاع عن الرئيس العراقي، ولا أحد يلتفت من هؤلاء إلى ضحايا الرئيس: عائلات بالآلاف فقدت أبناءها، رجال بالآلاف فقدوا في السجون أجمل سنوات عمرهم، نساء بالآلاف فقدن أعز ما يمتلكن، رجال دين، ورجال فكر وفن وثقافة بالآلاف، خيرة رجال الشرطة والجيش العراقي... كل هؤلاء يا أهل المحاماة والعدل بانتظار شطر بسيط من اهتمامكم بإنقاذ صدام!
"إذا تقدم لك أحد ضحايا صدام حسين، ويملك الأدلة، وطلب منك مساعدته في الاقتصاص ممن عذبوه، فهل ستقوم بهذه المهمة"؟
هكذا سأل مراسل صحفي عربي رئيس هيئة الدفاع عن صدام، المحامي الأردني محمد الرشدان، فأجاب: لا يجوز أن أتوكل عن جهتين ويصير تداخل في التوكيلات. لا يجوز أن أكون نيابة ودفاعاً. هذه مسألة غير قانونية.
ولكن السيد الرشدان قال في الحوار نفسه إنه يبحث الآن عن "