في بعض أوساط المثقفين والصحافيين العرب، بدأ يشيع مؤخراً تعبير "الليبرالية الجديدة"، والمقصود به الانتقال من الحال السائدة اليوم عربياً، على الصعيدين السياسي والفكري، إلى حال جديدة تشكّل الديمقراطية همّها وشاغلها الأساسي. وربما كانت صحيفة "إيلاف" الإليكترونية صاحبة الفضل في إبراز هذه الأصوات التي أصدرت مؤخراً "مانيفستو" (بياناً) كتبه ووقعه واحد من "الليبراليين الجدد" هؤلاء. ولنقل، بادئ ذي بدء، إن الظاهرة هذه علامة صحية، أكان في صدورها عن الهوامش، وليس عن المتن العريض المألوف في الثقافة السياسية العربية، أم في إلحاحها على التغيير. فلا ذاك المتن، القومي ـ الإسلامي ـ اليساري، المستولي على "العقل العربي" منذ خمسة عقود، بالطرف الصالح لتقرير ما يجب فعله وما لا يجب، ولا طريقته في تبويب المسائل العربية وفرز أولوياتها، وصولاً إلى قضايا الأدب والإبداع، بالطريقة التي ثبتت جدواها. أما أن يكون التردّي الذي بلغه العالم العربي حافزاً على إنتاج أفكار ودعوات منشقة، فهو مما يصعب الشك فيه فيما نراه حولنا من تراجع نوعي على المستويات جميعاً. وهكذا فإن التشكيك السمج بمحاولات المختلفين والمغايرين، وإيحاءات التخوين أو التكفير هي آخر ما يستحق التقدير والاحترام. ففضلاً عن حق أي كان في أن يقول أياً من الأقوال التي يريدها، هناك مليون سبب يفسر ذهاب من يذهبون في اتجاه راديكالي وفي المطالبة بتغييرات حادة وقصوى. ومن ناحيتهم، فإن مُصدري الفتاوى من مواقع سلطوية وشبه سلطوية، لا يزال ينتظرهم تفسير الفتاوى التي كانوا أصدروها في مراحل سابقة وآلت بالجميع إلى ما نحن وهم فيه الآن.
مع ذلك، تعاني الدعوة "الليبرالية الجديدة" مما تعانيه الحركات الراديكالية والقصوى بصفة عامة. والمقصود، هنا، بالتحديد، ذاك الإلحاح الفوري على إحداث تغيير ما، فيما المشكلة أعقد بكثير من هذا التبسيط التلقائي. وقد سبق للكاتبة والباحثة اللبنانية دلال البزري أن تناولت في ملحق "تيارات" من جريدة "الحياة" الأحد الماضي، موضوع "الليبراليين العرب الجدد"، فأخذت عليهم كونهم امتداداً لنفس ذاك المنطق الخلاصي والانقلابي الذي ساد الفكر السياسي العربي المعهود، بأصنافه اليمينية واليسارية على السواء. وفي هذا، كانت البزري مُحقة تماماً، لجهة التنبيه إلى أن الدعوة إلى الديمقراطية يصعب أن تستأنف الدعوات القديمة إلى رسالات "خالدة" سابقة.
والحال أن حرب العراق، فضلاً عن أحداث أقل أهمية سبقتها وتلتها، دلت على أن المسألة هي طريقة الانتقال الصعب والمعقد إلى الديمقراطية، قبل أن تكون تبشيراً بجواز الديمقراطية ومدى جدواها.
فهل الديمقراطية هي أمر اليوم في ظل الضعف الهائل للطلب الشعبي عليها. ومن هي يا ترى القوى الاجتماعية الداخلية التي تحمل هذه الديمقراطية وتطبّق برنامجها، في ظل وهن وضمور الطبقات الوسطى والنخب الحديثة عموماً؟ وكيف التوفيق بين المشروع الديمقراطي وبين التكسّر المجتمعي أدياناً ومذاهب وإثنيات، والمصحوب بهزال تقليد "الدولة الأمة" في مجتمعاتنا؟ ثم، كيف تتحرك الدعوة إلى الديمقراطية وسط الاستقطاب الهائل و"الأصيل" في ثقافتنا السياسية بأوسع معانيها، والذي يدور حول الانشقاق المزمن بين "الفتنة" و"الفوضى"، من دون وجود ثالث لهما؟ وأخيراً، هل يعقل فعلاً أن تتقدم الدعوة المذكورة في ظل العجز عن حل أزمة الشرق الأوسط، وتوفير حل عادل نسبياً للشعب الفلسطيني، علماً بأنه عجز تشكّل مساوئ سياسات بلدان الغرب الديمقراطية أحد أسبابه البارزة.
هذه الأسئلة، وربما غيرها، هي ما ينبغي للديمقراطي في العالم العربي أن يتعامل معها، متمسكاً بنهج يجمع بين راديكالية الهدف وتدرجية الوسائل. فأغلب الظن أن الديمقراطية إذا ما كُتب لها النجاح لن تتقدم دفعةً واحدة، بل تتحقق عبر تحقق مكوّناتها الواحد بعد الآخر، فيحصل هذا البلد، مثلاً، على مكاسب تتعلق بحكم القانون، ويحصل ذاك على مكاسب تتصل بحرية المرأة، وهكذا دواليك.
أما الإلحاح على التنفيذ الفوري الكامل والشامل فيجعل من أصحابه مجرد مُبشّرين لا يثير نقدهم العصبي المتكرر لـ"العرب" ولـ"ثقافتهم" إلا الإضجار، أو أنه يجعلهم حاملين لذواتٍ متضخمة يزداد يأسها من مثل هذه الشعوب المتخلفة" ("كمقام المسيح بين اليهود"... حسب أبي الطيب المتنبي)، أو ربما دفعهم لأن يغدوا مبادرين إلى تغيير يفتقر إلى أي من مقدماته. فإن فشل التغيير هذا آل إلى التحاق كامل بمن يُجمع العرب على اعتبارهم أعداء لهم، وهكذا سهل إلصاق تهم "العمالة" و"الالتحاق" بهذه الأقلية المعزولة، وإن نجح (؟) آل الأمر إلى أنظمة نخبوية وعديمة الشعبية تنتهي حتماً إلى سلوك قمعي يمارسه، هذه المرة، ديمقراطيون متشددون في ديمقراطيتهم!
بلغة أخرى، أشد صراحة ومباشرة، فإن المطروح على الديمقراطيين العرب ليس فرض الديمقراطية، بل جعلها شعبية. وهذه مهمة فكرية وثقافية قبل أن تكون سياسية، فيما سياسات "الغرب"، بوصفه مهد النموذج الديمقراطي وحامله، تلعب فيها دور