... وكما يحاول الجناحان الشرقي والغربي لمصر الكسيرة وراثتها، يحاول البعض من أهلها اختراق قلبها لإنهائها والقضاء عليها. ويقوم بذلك بعض من يبحثون لهم عن دور جديد في مصر الجديدة الممسوخة، وفي نظام العالم الجديد ذي القطب الواحد. ينتسبون إلى النخبة أو الطبقة المتوسطة. فالنخبة طوال تاريخها تعيش على مساندة الأجنبي، والتعالي على أهل البلاد من العمال والفلاحين والطبقات الدنيا بل والمتوسطة. تتكلم اللغات الأجنبية، الفرنسية والإنجليزية. وهى ليست مثل باشاوات مصر الوطنيين الذين قاموا بعمليات بناء الدولة ثم تحديثها والذين عرضوا على إسماعيل سداد ديون مصر حفاظا على استقلالها. وهم الذين قادوا ثورة 1919، وكونوا العصر الليبرالي قبل 1952. بل هي نخبة من رجال الأعمال، وطبقة من الأغنياء الجدد لا همَّ لها إلا الربح السريع عن طريق المضاربة في العقارات، والاتجار بالعملة الأجنبية في السوق السوداء، وتهريب الأموال وقروض البنوك بلا ضمانات، والرشوة والفساد كوسيلة للتحايل على القانون، وقيم الاستهلاك ومظاهر البذخ والترف في القصور الجديدة وعلى شواطئ البحار.
كما يتم الاختراق عن طريق الطبقة المتوسطة التي تريد أن تلعب دورا بعد أن حوصرت بين الطبقة العليا التي لم تعد قادرة على الوصول إليها، والطبقة الدنيا التي تتعالى عليها. وهي التي لم تعد قادرة على الانخراط في طوابير الانتظار لنيل السلطة والثروة والجاه عن طريق الحزب الحاكم. وهي التي لم تواتِها الشجاعة الكافية لتنضم إلى أحزاب المعارضة العلنية المسالمة المستأنسَة أو السرية العنيفة. والطبقة المتوسطة طوال عمرها انتهازية، توهم الطبقة الفقيرة بأنها تدافع عن حقوقها. وتوحي إلى الطبقة العليا بأنها تدافع عن مصالحها. فتكسب ثقة الفقراء، وتتكسب من ثروة الأغنياء. تشعر بالنقص أمام الآخر الأجنبي خاصة إذا انسد طريق الصعود الاجتماعي الوطني. فتقلده في أفكاره ومُثله وقيمه وأساليب حياته لعلها تنعم بالهجرة إلى أراضيه في الخارج أو تكون ممثلة لشركاته ومصالحه في الداخل باسم "محمد موتورز" أو "منصور شيفروليه". وهى بورجوازية جديدة وليست أصيلة. اغتنت منذ الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات. تلبس قشرة الحضارة والروح جاهلية. ومنهم من أثرى في بلاد النفط، وعاد بسلوك أهلها في ثنائية حادة بين التمتع بالدنيا والتعويض عنها بالآخرة والإسراف والبذج في الدنيا، ورعاية الفقراء والمعوزين رغبة في النجاة والجزاء في الآخرة.
ويتمثل الاختراق الثقافي في ثلاثة تيارات متداخلة. الأول أنصار العولمة. فالعصر عصرها، والتاريخ تاريخها، والقانون قانونها. العالم قرية واحدة. والدولة الوطنية لا لزوم لها لأنها عائق بإرادتها المستقلة، وحواجزها الجمركية، وبسياساتها في التخطيط، ودعم المواد الغذائية عن الدخول في قوانين السوق، والاستثمار، والمنافسة، والربح، ورأس المال العالمي، والمصارف الدولية، وبورصات الأوراق المالية. لقد انتهى عصر الاستقطاب، وأصبحت أميركا هي القوة الوحيدة في العالم، والرأسمالية نهاية التاريخ. وصراع الحضارات يخيف الشعوب المتخلفة التي مازالت ترزح تحت نظم الطغيان والتسلط والقهر من العدوان عليها، وتكرار النموذج العراقي على سوريا وإيران وليبيا بالرغم من تحولاتها الأخيرة، من النقيض إلى النقيض، والسودان بسبب دارفور، والسعودية بسبب القتلى الأميركيين.
وقد ينضم بعض الماركسيين القدماء إلى الجوقة الجديدة باسم الحتمية التاريخية، وضرورة التأقلم مع الواقع الجديد، بعيدا عن الأيديولوجيات القطعية التي أدت إلى انهيار المعسكر الاشتراكي في المركز والأطراف. والقطاع الخاص جاهز، والبنوك الخاصة مستعدة، وثورة الاتصالات تقرّب البعيد.
والتيار الثاني هم الليبراليون الجدد الذين بدأت كتاباتهم في الظهور، ويعبرون عن أنفسهم في القنوات الفضائية الشهيرة ذائعة الصيت. لقد نعمت البلاد بالليبرالية سابقا، وأقيمت أول محاولات للتصنيع في عهدها. ونعمت بالحريات العامة، وحظيت بالتعددية الحزبية. وكانت لها حكومات مسؤولة أمام البرلمان، ودستور مثل معظم دساتير العالم، وضعها فقهاؤها الدوليون الذين وضعوا معظم الدساتير في الوطن العربي في عصره الليبرالي. وهذا يتطلب الاعتماد على القطاع الخاص، والتخلص من بقايا القطاع العام، والتخلي عن التخطيط، واتباع قوانين السوق، المنافسة والربح، وإنشاء الجامعات الخاصة القادرة على تخريج جامعيين على دراية باللغات الأجنبية، وبالحواسب الآلية وبعلوم إدارة الأعمال. ويبدأ ذلك من الصغر بالتعليم الأجنبي الخاص، من المهد إلى اللحد، لمواجهة التعليم الديني الخاص. ولا ضير في عودة الملكيات القديمة. فالملكية الدستورية خير من الجمهورية الرئاسية. والحنين إلى الليبرالية أعمق في التاريخ وأبعد في الزمان من الحنين إلى القومية الأحدث عهداً أو الحنين إلى الخلافة الراشدة التي طال عليها العهد، وأصبحت حلما ومجرد خيال. ومصر جزء من البحر الأبيض المتوسط. وطالما نادى مفكروها بأن ثقافتها ثقافته