تمّ للتو نشر استطلاع جديد للرأي العام الأميركي، وهو يحتوي على بعض النتائج ذات الأهمية والشأن. وقد أظهر الاستطلاع أن ما بين 60 إلى 32% من الأميركيين يقولون الآن، إن الحرب مع العراق لم تكن تستحق تكاليفها، وأن ما بين 55 إلى 17% منهم يقولون إن الحرب على وجه العموم قد خلقت المزيد من الإرهاب بدلاً من أن تقلصه، وأن ما بين 47 إلى 13% من الأميركيين يقولون إن تلك الحرب قد زادت من حجم تهديد الإرهاب للولايات المتحدة. وتكشف هذه الأرقام انقلاباً في تأييد الأميركيين لسياسة الرئيس "بوش" حيال العراق، بعد أن كانت أغلبية الأميركيين تؤيدها في خريف العام الماضي عندما تم إلقاء القبض على صدّام حسين. ولهذا الأمر أهمية وشأن.
لكن ما يثير الاهتمام أكثر بكثير مما تثيره هذه الأرقام هو تلك النتائج التي تكشفت في الاستطلاع نفسه عندما تم طرح السؤال التالي على المشمولين بالاستطلاع:"هل تعتقد أن الرئيس بوش، في تصريحاته حول الحرب في العراق، يقول الحقيقة الكاملة؟ أم أنه في المقام الأول يقول الحقيقة لكنه يخفي شيئاً ما، أم أنه في المقام الأول يكذب؟".
وفي معرض إجابتهم على هذا السؤال، قال 59% من الأميركيين المشمولين بالاستطلاع إن الرئيس "بوش" يخفي شيئاً ما، في حين قال 20% منهم إنه يكذب؛ وكان هناك 18% فقط منهم يعتقدون أنه يقول الحقيقة (هذا مع وجود 2% منهم لم يُبدوا رأيهم في الأمر). وفي سياق التاريخ الأميركي، تشكل هذه النتائج مجموعة مهمة من الأرقام. وبطبيعة الحال، تكون هناك مشكلة أمام الرئيس "بوش" عندما تقول أغلبية الأميركيين الآن إن حربه لم تكن تستحق تكاليفها، وإنها زادت الإرهاب، هذا باعتبار أن الرئيس "بوش" يجادل بقوة للبرهنة على صحة ما هو عكس ذلك، وباعتبار أن نجاحه في الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في شهر نوفمبر المقبل سيكون مرهوناً إلى حد بعيد بكيفية تقييم الجمهور الأميركي لسياسته حيال العراق. لكن هناك أربعة أشهر تقريباً ما بين يومنا هذا ويوم الانتخابات، ومن الممكن أن يحدث الشيء الكثير في العراق في تلك الفترة المتبقية، كما أن من الممكن أن يتغير الرأي العام الأميركي حتى ذلك الحين. ومن ذلك على سبيل المثال، أنه باعتبار أن الاحتلال قد انتهى الآن وأن العراقيين صاروا يتمتعون بالسيادة على بلدهم حتى مع استمرار العنف، فإنه قد يكون أسهل على مؤيدي "بوش" أن يفلتوا من قدر أكبر من المسؤولية عن المشكلات في ذلك البلد. فإذا تحسن الوضع الأمني وأحرزت الحكومة العراقية المؤقتة تقدماً في حل مشكلات البلاد، فمن الممكن لذلك أن يساعد على استعادة مكانة الرئيس "بوش" في بلاده هو. ومن الممكن أيضاً لأحداث أخرى، ومنها مثلاً وقوع هجوم إرهابي جديد على الولايات المتحدة، أن تساعد الرئيس "بوش". وهناك أيضاً في الأشهر الأربعة المقبلة الكثير من العناصر التي لا يمكن التنبؤ بها.
ومسألة الكذب أو عدم قول الحقيقة الكاملة هي في أية حال مشكلة من الممكن أن تكبر وتتفاقم وأن تلحق الضرر بفرص الرئيس "بوش" في إعادة انتخابه رئيساً للمرة الثانية. فما أن تنغرس في أذهان الناس الفكرة التي مفادها أن الرئيس "بوش" لا يقول الحقيقة، حتى يصبح من الصعب عليه أن ينفض عن نفسه تلك الشكوك. ذلك أنه أتى إلى منصب الرئاسة كشخص كان يبدو صادقاً ومخلصاً، لكن الأحداث التي وقعت في الآونة الأخيرة، ولا سيّما تلك المرتبطة بالمبرر الذي أعطاه "بوش" للحرب على العراق، قد بدأت تثير حوله شبهات مفادها أنه كان مخادعاً. وهناك أيضاً منافسه في الانتخابات المقبلة السيناتور "جون كيري" الذي قال مراراً وتكراراً إنه أدلى بصوته المؤيد للحرب لأن الرئيس "بوش" قد ضلّله، وهو ما يعني بكلمات أخرى أن الرئيس قد كذب. وقد بدأ المزيد من الأميركيين في تصديق الأمر؛ وكان ذلك موضوعاً من مواضيع الفيلم الشعبي الجديد "فهرنهايت 9/11".
وقد شكّل كذب الرئيس، أو حتى مجرد وجود تصور مفاده أنه كذب، عاملاً سلبياً ضخماً في ما يتعلق ببعض الرؤساء السابقين. فهناك كذبة الرئيس "ريتشارد نيكسون" حول الاقتحام غير القانوني لمكتب يقع في منطقة "ووترغيت"، وهو الاقتحام الذي نفّذه بعض مؤيدي "نيكسون" والذي أدى في نهاية المطاف إلى استقالته من منصب الرئاسة. وعلى رغم أن الرئيس "نيكسون" اعتبر الحادث الفعلي "عملية سطو من الدرجة الثالثة" وأنه يشكّل في الحقيقة جريمة ثانوية جداً، فإن الحقيقة التي مفادها أن "نيكسون" قد كذب في محاولة للتستر على الحادث كانت هي ما تسبّب في سقوطه السياسي. وأيضاً عندما كذب "بيل كلينتون" كذبته الشهيرة حول علاقته بـ"مونيكا لوينسكي"، اتهمه الكونغرس الأميركي أمام القضاء وجعله يخضع للمحاكمة، بل وكاد يعزله من منصب الرئاسة. ولم تكن مشكلة "كلينتون" السياسية هي إقامة علاقة مع امرأة أخرى، بل كذبه على الجمهور بخصوص تلك العلاقة. ومن الصعب تنحية رئيس ما بعد أن يتم انتخابه، لكن هذين الرئيسين- أي "نيكسون" و"كلينتون"- عانيا الشيء الكثير بسبب كذبهما حتى في ما يتعلق بأمور ثانوية.
وال