يعتبر هذا الكتاب مرجعاً تاريخياً توثيقياً عن أوضاع النقابات العاملة في الولايات المتحدة الأميركية منذ أزمة "الكساد الكبير" وإلى اليوم. وقد تزامن صدوره مع موجة ركود جديدة يمر بها الاقتصاد الأميركي حاليا، رافقها ارتفاع ملحوظ في نسب ومعدلات البطالة. غير أن مؤلفه نيلسون ليشتنشتاين، لا يقف بكتابه في حدود التوثيق التاريخي فحسب، وإنما يمضي خطوة أبعد، باستخدامه التاريخ أداة يعمِلها في ربطه لأحداث وتجارب ماضي العمل الأميركي، بحاضر القضايا المثارة الآن في جبهة العمل عموما، وما يتصل بها من قضايا نقابية. ومن خلال هذا المنهج التحليلي التاريخي، يهدف الكاتب للوصول إلى أن يرى العمل الأميركي وهو يسترد صحته وعافيته، ويصحح أخطاءه ومظاهر ضعفه وعيوبه بنفسه، أو من داخله. فتصبح هذه النقابات جزءا لا يتجزأ مما يسميه المؤلف بثورة الحقوق المدنية في أميركا. ومن هنا فإن الوعي بهذه الحقوق وما يرتبط بها من خطاب نقابي مهني وسياسي، يظلان أداة عمل مهمة ولا غنى عنها بيد المهنيين والعاملين الأميركيين في مختلف أماكن ومستويات الإنتاج، في القطاعين العام والخاص على حد سواء.
مهنيا يعمل المؤلف أستاذا للتاريخ في جامعة كاليفورنيا بمدينة سانتا باربرا. إلا أنه لا يقصر نشاطه على الجانب الأكاديمي وحده، بل ينشط نقابيا وسياسيا، وأسهم في تنظيم حملات نقابية أعطاها شعارا هو:"حقوق العمل.. حقوق مدنية". ولما كانت مادة الكتاب هي توثيق لتاريخ العمل والنقابات الأميركية في القرن العشرين، فقد ارتبطت موضوعاته الرئيسية بجملة من القضايا الأخرى ذات الصلة بالحقوق المدنية عموما، وعلى رأسها الحرية والديمقراطية. ومن رأي المؤلف أن ازدهار العمل الأميركي هو صمام الأمان للديمقراطية الأميركية نفسها.
وعودة إلى أحداث التاريخ في هذا المجال، يوثق المؤلف لذلك الصراع الذي دار حول مفهوم وممارسة المواطنة الاقتصادية. وكان الصراع المذكور، هو الذي مهد الطريق، وأدى في النهاية إلى حركة التنظيم الواسعة في صفوف العاملين الأميركيين، ونهضة النقابات هناك طوال فترة الكساد الكبير في عقد الثلاثينيات، وصولا إلى الحرب العالمية في أواخر العقد. وفي أعقاب الحرب، كانت النقابات قد اكتسبت لها وزنا كبيرا في مختلف مواقع الإنتاج، فضلا عن التأثير السياسي الذي كانت تتمتع به. مع ذلك، فقد كان عليها أن تخوض صراعا شرسا وضاريا ضد أصحاب الشركات والأعمال، بسبب السعي المستمر من هذه الأخيرة، للجم العمل النقابي وتحجيم دوره وتأثيره. وعلى امتداد الكتاب كله، ينشغل المؤلف كثيرا بتقييم سلبيات وإيجابيات تجربة العمل النقابي في الولايات المتحدة، ودورها في تعزيز الحريات المدنية والمؤسسات الديمقراطية. وضمن ذلك، استعرض الكاتب مطولا، علاقة الصراع المستمر، التي ربطت ما بين النقابات، وأصحاب العمل. وأوضح أن محور ذلك الصراع، هو سعى النقابات دائما، للارتقاء بوعي العاملين بحقوقهم الاقتصادية، والفوائد التي يفترض أن يعود بها عليهم عملهم، وتحسين مستوى معيشتهم ودخلهم المهني من ناحية. بينما يرى أصحاب العمل والاستثمارات في النقابات عدوا يجب لجمه وكبح جماحه، إن لم يعد ممكنا التخلص منه، واجتثاثه تماما بفعل مستوى الوعي السياسي والنقابي الذي حققته الحركة النقابية الأميركية وقتئذ.
وقال المؤلف إن التيارات اليمينية المحافظة في الحركة السياسية الأميركية، هي العدو التقليدي للنقابات، وهي الأشرس في شن الحملات المسعورة ضدها، والعمل المستمر لتكسيرها وقص أجنحتها. كيف لا وقد كانت النقابات تخوض المعارك الأساسية في مجال العمل، مثل الصراع من أجل الأجر المتكافئ للعمل المتكافئ، ونبذ التفرقة بين العاملين على أساس الجنس أو اللون أو المعتقد الديني، وغيرها من أسس، عادة ما كانت تتبع في التمييز بين العاملين. وهي أسس لا علاقة لها البتة بمعايير الكفاءة المهنية، ولا بالمتطلبات الفعلية للعمل بحد ذاته؟ لذا فإن من رأي الكاتب أن للنقابات دورا مقدرا وكبيرا، في ترسيخ أهم المبادئ التي شكلت القيم التي نهض عليها المجتمع الأميركي فيما بعد. وجوهر هذه القيم هي الحرية والمساواة بين الناس على أساس المواطنة، وليس أية اعتبارات أخرى.
وفي معرض تقييمه للوضع الحالي للنقابات ودورها في مجتمع القرن الحادي والعشرين، يرى المؤلف أن النقابات الأميركية، تواجه تحديات ومصاعب جمة في مسيرة عملها. إلا أن هذه التحديات والمصاعب، لن تحول أو تقلل من حقيقة أن العمل النقابي قد تمكن من تجاوز تحديات وعثرات أكبر، في الحقب والعقود السابقة. من هنا فإنه قادر على أن يبني على ذلك الرصيد والتراث والمكتسبات السابقة كي يشق مسيرته، ويلعب دوره الجديد في ظل متغيرات القرن الحادي والعشرين.
وأهم هذه المتغيرات أن القيم السائدة داخل الولايات المتحدة، وعلى صعيد المجتمع الدولي ككل، هي قيم حافزة لمبادئ العدالة الاجتماعية، وصيانة الحقوق والحريات المدنية، خلافا لما كانت عليه قيم الماضي، والظروف التي شهدت ميلاد الحركة النقابية الأمي