استعاد العراق سيادته في الأسبوع الماضي بعد حوالي 13 شهراً ظلت هذه السيادة خلالها بين يدي سلطة الاحتلال· أعاد مجلس الأمن في قراره 1546 للعراقيين سيادتهم على بلدهم بعد أن كان قد سلبها منهم بموجب قراره 1483 في مايو 2003· ولذلك تعتبر هذه هي أقصر فترة احتلال في التاريخ سواء في عصر الامبراطوريات القديمة أو في مرحلة الظاهرة الاستعمارية الحديثة التي اقترنت بتمدد الدول الأوروبية الأكثر تقدماً في معظم أنحاء آسيا وأفريقيا.
ولأن فترة الاحتلال كانت قصيرة للغاية على هذا النحو فمن الطبيعي أن انهاءها لا يعني ممارسة العراقيين السلطة كاملة في إدارة شؤونهم· فما حدث هو أن العراقيين استعادوا سيادة كاملة وسلطة منقوصة بخلاف ما شاع في كثير من وسائل الإعلام خلال الأيام الماضية، إذ قيل إن الذي حدث هو نقل للسلطة لا للسيادة· ويبدو أن ضخامة كلمة السيادة توحي بأنها أهم من السلطة· ولكن السيادة هي مفهوم قانوني بالأساس بينما السلطة مفهوم سياسي· السيادة تتعلق أكثر بالقانون الدولي، بينما السلطة ترتبط بالممارسة الفعلية على الأرض· ولذلك فإن إعادة السيادة إلى الشعب العراقي لا تعني استقلالاً كاملاً للحكومة التي تدير البلاد بشكل مؤقت حتى يناير المقبل في ممارسة سلطاتها·
فالقيد الأساسي على ممارسة الحكومة العراقية سلطاتها بشكل كامل هو وجود قوات أجنبية منحها مجلس الأمن شرعية وجعلها قوات متعددة الجنسيات بعد أن كانت قوات احتلال· فالسيادة التامة من منظور القانون الدولي لا تؤدي في هذه الحالة إلى سلطة كاملة حتى إذا كان قطاع كبيرمن الشعب العراقي يقبل ذلك لإدراكه أنه لا بديل عن وجود عسكري أجنبي مؤقت على أرضه·
والشعب العراقي يتوق مثل كل شعب آخر إلى جلاء القوات الأجنبية في أسرع وقت· ولكن الخوف من الفراغ الأمني الذي سيترتب على جلائها اليوم يفرض عليه قبول هذا الشر بشكل مؤقت. وتعتبر هذه حالة غير مسبوقة في تاريخ الظاهرة الاستعمارية. فالنمط السائد في عملية إنهاء الاحتلال في البلاد التي خضعت للاستعمار كان يتمثل في مطالبة الشعوب بخروج آخر جندي أجنبي فور استعادة السيادة· ولكن غالباً ما كان الجلاء النهائي لقوات الاحتلال يتأخر لسنوات بعد السيادة· ولنا في حالة مصر مثل يمكن أن نعود إليه. الشعب المصري كان راغباً بشدة في الجلاء منذ 1936· ولذلك كان استمرار الوجود العسكري البريطاني مفروضاً عليه· فلم يكن ثمة مصري واحد يؤيد بقاء جندي بريطاني بخلاف الحال في العراق اليوم حيث يفضل كثير من العراقيين -وليس كلهم بطبيعة الحال- بقاء قوات أجنبية خارج المدن لعدة شهور حتى يتم الانتهاء من إعادة بناء الجيش وأجهزة الأمن·
ويمكن تفسير هذا الفرق من زاويتين: الأولى هي أن الاحتلال الذي تعرض له العراق في العام الماضي يعتبر حدثاً استثنائياً خارجاً عن السياق العام للتطور في المجتمع الدولي بعد أن انتهى عصر الاستعمار إلى غير رجعة· وثانيتهما أن فترة الاحتلال الرسمي كانت قصيرة للغاية بمعيار الوقت اللازم لإعادة بناء جيش تم تسريحه وأجهزة أمنية تبخرت فور انهيار نظام الحكم السابق· وثمة علاقة وثيقة بين استثنائية الحدث الاحتلالي وقصر مدته, إذ يستحيل تبرير حالة احتلال عسكري في مطلع القرن الحادي والعشرين أياً تكن الظروف المحيطة بها أو الدوافع التي أدت إليها·
ولذلك لقي استمرار وجود قوات أجنبية في العراق قبولاً من الدول الكبرى التي وقفت ضد الحرب في العام الماضي بشكل حاسم· ولم يكن هذا تراجعاً من فرنسا وروسيا والصين وألمانيا وإنما هو تقدير واقعي لوضع يجعل التعجيل بإجلاء هذه القوات أسوأ من ابقائها عدة شهور أخرى تحت سلطة مجلس الأمن وإشرافه· فلا يستطيع أحد مهما كان نفوره من الوجود الأجنبي أن يقدم أدنى ضمان بأن اجلاء القوات الأجنبية من العراق الآن فوراً أو في غضون أسابيع قليلة لن يؤدي إلى نشوب حرب أهلية أو حروب أهلية صغيرة متعددة ومتنوعة في كثير من مناطق العراق. وليس في إمكان أحد مهما كانت درجة تفاؤله أن يجزم بأن هذه الحرب الأهلية المحتملة ستستغرق وقتاً أقل مما هو مقدر لاستمرار الوجود الأجنبي في العراق.
فإذا كان مرجحاً أن يستمر هذا الوجود لعدة شهور، فالمؤكد أن حرباً أو حروباً أهلية ستستمر لسنوات طويلة. ففي لبنان تواصلت الحرب الأهلية نحو 14 عاماً في مجتمع لم تصل الأحقاد والمرارات والضغائن بين معظم فئاته إلى ما بلغته في بعض مناطق العراق. فقد عاش المجتمع العراقي في حال حرب أهلية كامنة تحت السطح على مدى عشرين عاماً وخصوصاً خلال السنوات العشر الأخيرة في حياة نظام صدام حسين الذي أحكم سيطرته اعتماداً على أدوات من بينها إثارة وتعميق الضغائن بين مكونات المجتمع التقليدية الأساسية وفي مقدمتها العرب السنة والشيعة والأكراد·
فالحاصل، إذن، أن السيادة التي أعيدت إلى الشعب العراقي لن تتم ممارستها كاملة، أو بالأحرى لن تقترن بحصول الحكومة التي بدأت في إدارة البلاد على سلطة كاملة. وسيكون عليها أن تنسق كل ما يتعلق بالأوضاع الأمنية مع