يعتبر البعوض من أكثر المخلوقات إزعاجا وكراهية على ظهر الأرض، وذلك لأسباب وجيهة. فالبعوض لا يدفعنا فقط نحو الجنون بسبب طنينه المستمر في آذاننا، أو بسبب الحكة المؤلمة التي تسببها لدغاته، بل هو أيضا أحد أهم الوسائل التي تنتقل بها الأمراض المعدية الخطيرة لأكثر من سبعمائة مليون شخص سنوياً. فرغم أن وزن البعوضة لا يزيد في الغالب عن جرامين، إلا أن قائمة الأمراض التي تنتقل من خلال البعوض تثقل كاهل الجنس البشري منذ بداية التاريخ. وتشتمل هذه الأمراض على مجموعة الأمراض الطفيلية مثل الملاريا والفلاريا (Filariasis)، وعلى مجموعة الأمراض الفيروسية مثل الحمى الصفراء وحمى "الدانج" النزيفية -والتي يطلق عليها أحيانا حمى تكسر العظام بسبب ما تسببه من آلام مبرحة في العظام والمفاصل-، بالإضافة إلى فيروس التهاب المخ الحاد وفيروس غرب النيل. ولا يكتفي البعوض بنقل الأمراض من شخص إلى آخر في المناطق الموبوءة، بل يعمل أيضا على نقل الأمراض أيضا بين الدول والقارات. فعلى سبيل المثال حملت البعوض فيروس غرب النيل إلى أمريكا الشمالية عام 1999، لأول مرة في تاريخ القارة، وبعد أربعة أعوام وبحلول عام 2003 انتشر هذا المرض الخطير في جميع الولايات الأمريكية بدون استثناء. ويكفي أن نستعرض آثر أحد الأمراض الطفيلية التي ينقلها البعوض، كي ندرك فداحة الثمن الإنساني والاقتصادي والاجتماعي الذي يدفعه البشر مقابل بضعة قطرات من الدماء تتعطش لها تلك الحشرات المعدية. فطفيلي الملاريا موجود حالياً في تسعين دولة من دول العالم, ويصيب واحداً من كل عشرة أشخاص، وخصوصاً أفراد الشعوب القاطنة لأفريقيا والهند والبرازيل وسريلانكا وفيتنام وغيرها من الدول. وتوجد تسعون في المئة من مجمل حالات الملاريا على مستوى العالم في جنوب الصحراء الكبرى، وهو ما يجعل هذا المرض السبب الأول للوفيات في تلك المنطقة وأكبر المخاطر الصحية تأثيراً على صحة الأطفال، حيث يلقى طفل حتفه كل ثلاثين ثانية من هذا المرض على مستوى العالم. ويمكن للقارئ الرجوع إلى المقال المنشور في نفس هذا الحيز من صفحات وجهات نظر في الرابع والعشرين من يناير هذا العام بعنوان (بعد أن صنعت الملاريا التاريخ .... هل سينجح الإنسان في مقاومتها؟)، لإدراك مدى ضخامة تأثير الملاريا أو بالأحرى البعوض على تاريخ الجنس البشري وواقعه الحالي ومستقبله الصحي. هذا الوضع جعل من العلاقة بين البعوض والإنسان علاقة عداء تاريخي مستحكم، حاول الإنسان فيها دائما أن يقضى على البعوض عن بكرة أبيه، بينما سعى دائما البعوض -ونجح إلى حد كبير- إلى ارتشاف أكبر قدرا ممكن من الدماء البشرية.
ومؤخر وبعد أن فشل الإنسان في القضاء على النهائي على البعوض أو حتى تقليل أعداده بشكل ملحوظ، أصبحت أقصى طموحاته أن يقلل من عدد المرات التي سيلدغ فيها أو أن يقي نفسه من قائمة الأمراض التي يمكن أن يحملها لعاب البعوض إلى داخل جسده. هذه الاستراتيجية الجديدة تعتمد في حد كبير على ما يعرف بطارد الناموس أو البعوض (Mosquito repellent)، والتي تلعب أهمية خاصة في حمايتنا من اللدغ والقرص في الأماكن المفتوحة كحدائق وشرفات البيوت، حيث لا تجدي المبيدات الحشرية نفعا يذكر. وكي نفهم كيف تعمل تلك المنتجات وكيف نختار الأفضل والأكثر فعالية منها، ليس فقط لوقايتنا من آلام اللدغ, بل لحمايتنا أيضا من الأمراض الخطيرة التي يمكن أن ينقلها البعوض لنا، يجب أن نفهم أولا ما الذي يجذب البعوض إلينا ويدله على الأماكن الرقيقة واللذيذة من أجسامنا. فإذا ما كانت تساورك الشكوك في أن البعوض يختارك أنت بالذات دون بقية أفراد العائلة أو رفقة الأصدقاء، أو أنك أصبحت وليمة ليلة من ليالي الصيف تلتهمها بنهم تلك الكائنات الحشرية, بينما الجميع يستمتعون بالحديث والسمر وتناول المشروبات الباردة، فربما تكون على حق. فكل شخص منا يتمتع بكيمياء حيوية في جسمه تختلف عن الآخرين، وهو ما يجعل البعض ألذ طعما وهدفا أسهلا للبعوض والحشرات الأخرى. فالبعوض يشعر بوجودنا من على بعد في ظلام الليل الحالك من خلال ما نخرجه مع أنفاسنا من غاز ثاني أكسيد الكربون. فمع كل زفير نخرج جميعا سحابة صغيرة من ثاني أوكسيد الكربون، بالإضافة إلى جلدنا الذي يتنفس هو الآخر ويحيطنا بهالة من ثاني أوكسيد الكربون. وما أن يحمل نسيم الهواء رائحة ثاني أوكسيد الكربون للبعوض المترقب على الحوائط والأثاث، يسارع مثله مثل الطائرات المقاتلة بتحديد الهدف ومن ثم الهجوم. ويستطيع البعوض تحديد الأماكن المكشوفة من الجلد، من خلال الحرارة والرطوبة والعرق الناتج من الجلد، يساعدها في ذلك حركة الهدف.!
مثل هذا الهجوم يمكن وقفه في المساحات المغلقة، من خلال رش المبيدات الحشرية مثلا أو استخدام الناموسية الكلاسيكية أو وضع سلك على النوافذ يمنع دخول البعوض إلى الغرف. أما في الأماكن المفتوحة فيعتبر أفضل الحلول هو طوارد البعوض، وأفضلها على الإطلاق هو أقدمها، أو بالتحديد المنتجات المحتوية على مادة (DEET) بغض النظر عن ال