يذهب طه عبدالرحمن، أستاذ الفلسفة المغربي وصاحب العديد من المصنفات الفلسفية والمنطقية، إلى ضرورة إيجاد فلسفة عربية مختلفة عن الفلسفات العالمية الأخرى. وهو يرى أن على مثل هذه الفلسفة أن تنبع من فضاء عربي، وتكون منهمكة في المجال التداولي العربي، بإشكالاته ولغته ومهامه الفلسفية، ومنفكة عما يراه أسر منظومات الفلسفة الغربية. وهو ينظر إلى هذه الأطروحة في كتاب مهم ومستفز عنوانه "الحق العربي في الاختلاف الفلسفي". يرفض عبدالرحمن عددا من المقولات التي يراها شبه مستقرة في ذهنية المتفلسف العربي، وأهمها كونية الفلسفة، والعقل الخالص، وتعريف الهوية البشرية بالاستناد إلى العقلانية وتعقل الأشياء. ويرى أن كل فلسفة معينة تظل محكومة بجغرافيا وثقافة المنشأ. فهناك فلسفة إغريقية، وفلسفة صينية، وأخرى هندية، وفلسفة إسلامية عربية، ثم في قرون الاستنارة الأوروبية اللاحقة فلسفات ألمانية وإنجليزية وفرنسية. كل من هذه الفلسفات تنطق عن إحداثيات خاصة بها، بما ينفي كونيتها، ويخضعها في المطاف الأخير إلى أبعادها القومية وخصوصياتها الثقافية. لا يتحدث عبدالرحمن عن هذه الفلسفات، بل يركز معالجته على تضادية بارزة، أو مفترضة، بين فلسفة عربية (لا يراها موجودة أو متحققة بالمعنى المعرفي والتعريفي للكلمة) والفلسفة الغربية. ويرى أن الفلسفة الغربية مهيمنة على العالم، ليس شرطاً بقوة المنطق بقدر ما هي كذلك معتمدة على منطق القوة. ويقول إن ديدن التفلسف العربي الحديث لا يخرج عن إطار الاتباع والتقليد وصوغ المقولات الفلسفية الغربية في تعبيرات لغوية عربية لا تنقل حقاً هموم التفلسف العربي الحقيقية.
إزاء هذا، يلح سؤال كبير على القارئ خلال قراءة نص عبدالرحمن يتوازى مع كبر المطالبة "بالحق في الاختلاف الفلسفي" كما يعكسها العنوان أو التحليل المتضمن في الكتاب. هذا السؤال هو مَن وما الذي يمنعنا نحن العرب من اجتراح فلسفتنا العربية المعاصرة والخاصة بنا، إن كان هذا الأمر ملحاً بالدرجة التي يصفها الكتاب؟ هل يفي جواب المؤلف بأن واقع التبعية الفكرية والفلسفية والتصور الطاغي لدى المتفلسفين العرب يخلق مناخاً مانعاً للإبداع. هل فعلاً طغيان الفلسفة الغربية والاعتقاد بمرجعيتها النظرية هو الذي يحجب بزوغ فلسفة عربية، أم أن هناك قيوداً ومحددات يرى البعض أن الثقافة العربية والإسلامية تضعها على حرية التفلسف، خاصة عندما تصطدم بالدين؟ ألم تكن الفلسفة في التصور الجمعي العربي أو الإسلامي ضد الدين، ونظر إليها بشبهة وأحياناً بازدراء؟ ليس هذا لمخالفة فكرة عبدالرحمن الصحيحة إزاء هيمنة تصورات الفلسفة الغربية وتمثلها صفة الكونية حقاً أم إدعاءً، لكن هذه الفكرة (أو المانع) يظل جزئي التأثير في سبب ضمور التفلسف العربي.
يطالب طه عبدالرحمن بإبداع عربي في التفلسف لا تكون بوصلته الإشكاليات التي تطرحها الفلسفة الغربية بوهم أنها إشكاليات كونية. ويحاول في الكتاب تقديم أمثلة "إبداعية" على ذلك التفلسف تنطلق من تراث وراهن وضغوط الإلحاحات الفلسفية المعرفة عربياً، وليس غربياً أو كونياً. ويشتق اصطلاحات جديدة حول مفهوم القوم (القومية الحية، القيام، القوام، القومة) وحاول صوغ "خطط للقومية الحية" تدور حول "المقاومة" و"التقويم" و"الإقامة". من ضمن ما تشير إليه هذه الاشتقاقات، التي لا تتميز باليسر أو الصلابة اللذين يأمل فيهما عبدالرحمن، أن الانتساب إلى أي قوم يتعدى النسبة الإثنية إلى الانتساب إلى عالم القيمة الذي يجتمع عليه قوم ما، وهو أبعد من الانتساب الكلاسيكي القانوني إلى شعب ما المضبوط بالحقوق والواجبات. ويطرح عبدالرحمن أيضا مفاهيم جديدة في سياق توكيد المقاربة الأخلاقية القيمية لمسألة الهوية البشرية، منطلقاً من تفلسف عربي، مفارق للتفلسف الغربي المعلي ذي المقاربة العقلانية لتلك الهوية. فإن كانت الفلسفة الغربية ترى أن التعقل والعقلانية هما المميز الأهم في بشرية البشر (في اختلافهم عن الحيوان مثلاً)، فإن عبدالرحمن يرى أن المدخل الأساس لتلك الهوية هو السؤال المركزي حول القيمة و"كيف أكون على خلق"؟. وفي الإجابة على هذا السؤال يقول إن الهوية البشرية لها ثلاث دلالات هي الإنسانية، والرجولة، والمروءة (التي تنتهي بمرحلة أعلى هي الفتوة حيث كمال التدين، وكمال القوة، وكمال العمل). الرجولة أعلى مرتبة من الإنسانية لأنها تتضمن قوة معنوية قيمية ومادية جسدية أكثر فعلاً إيجابيا، والمروءة أعلى مرتبة من الرجولة، والفتوة أعلى مرتبة من المروءة.. وهكذا. وتطبيقاً لهذه المدلولات على المجال التداولي العربي يضرب مثال "الطبقات الأربع لمواقف العرب من الانتفاضة".
أصحاب الطبقة الأولى ينتمون إلى رتبة "الإنسانية" التي هي "في سلم السلوك البشري ذي المراتب الأربع سالفة الذكر"، وهؤلاء هم فئة أنصار التطبيع مع إسرائيل. أما الفئة الثانية فهم الذين يقاطعون إسرائيل وهؤلاء ينتمون إلى رتبة الرجولة التي تتصف بالقوة لكنها تظل منقوصة. أما الفئة الثالثة فتنتمي إلى رتبة