مثول الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، في بغداد الأسبوع الماضي أمام قاضي التحقيق الشاب كان مشهداً تاريخياً. كل ما حدث قبل وأثناء وبعد المحاكمة من تفاصيل يضيف إلى تاريخية المشهد مما جعله لحظة بارزة في محطة مرشحة لأن تكون مفصلية في تاريخ العراق. الحوار الذي دار بين الرئيس العراقي السابق وبين القاضي الشاب له دلالة مدهشة في السياق السياسي العربي. "السيد الرئيس المهيب... حفظه الله ورعاه" وجد نفسه عارياً يتجاذب الحديث مع قاض في سن أحد أبنائه، ويوجه له تهمة ارتكاب جرائم عدة، حرب، وقتل عمد...الخ. يتحدث الرئيس بكل أدب مع القاضي. يطلب منه أن يعرفه بنفسه، ثم يستأذنه بعدم التوقيع على وثيقة الاتهام إلا بحضور محام. لم يخطر ببال الرئيس، الآمر الناهي، أنه سيكون يوماً في قفص الاتهام، وتحت رحمة القانون، ورحمة آخرين كانوا ولا يزالون أعداءه. لم يعد في وسعه التهديد والوعيد. كل ما بقي له هو أن يقاتل في معركة هي معركته الأخيرة، وهي مع ذلك معركة غير متوازنة. في كل المعارك التي سبقت سقوط بغداد كان انعدام التوازن في صالح صدام. هذه المرة، وفي معركته الأخيرة، يجد صدام نفسه على الطرف الآخر من معادلة التوازن هذه.
ثم هناك ما حدث خارج قاعة المحكمة. هناك اصطف رموز القيادة العراقية السابقة، نائب الرئيس طه ياسين رمضان، والمستشار الرئاسي علي حسن المجيد، ونائب رئيس مجلس الوزراء طارق عزيز، ووزير الدفاع سلطان الهاشم، ورئيس الاستخبارات، وغيرهم، اصطفوا وراء بعضهم بعضاً في صف واحد، كل منهم مصفد بالأغلال، وكل واحد ينتظر دوره في الدخول إلى قاعة المحكمة. هذا المشهد، مضافاً إليه جلوس تلك الرموز واحداً بعد الآخر أمام قاضي التحقيق للاستماع إلى التهم الموجهة إلى كل منهم يشكل سابقة في التاريخ السياسي العربي.
ما الذي حدث حتى انقلب المشهد السياسي العراقي بهذه الصورة؟ السؤال يتجاوز ذلك لأن هذه مجرد صورة واحدة لمشهد له أكثر من صورة المحاكمة: صورة الاحتلال والمواجهة مع قوات الاحتلال، وصورة الانقسامات السياسية والإثنية والطائفية، وصورة حكومة معينة من قبل قوات الاحتلال، وصورة الدم العراقي وهو يستباح بشكل يومي على يد قوات الاحتلال من ناحية، ويد المقاومة من ناحية أخرى. تكمن مأساة هذا المشهد في كثرة وتعددية هذه الصور بشكل تفتقد فيه إلى التكامل وإلى الانسجام. ليس هناك ضابط للمشهد السياسي للعراق وهو تحت الاحتلال. بعبارة أخرى، يفتقد العراق في هذه اللحظة، وهي من أحرج اللحظات التاريخية لهذا البلد المنكوب، إلى خطاب سياسي واحد، والأهم من ذلك أنه يفتقد إلى قيادة سياسية أو روحية يلتف حولها الناس، ويلتف حولها المشهد، ويستعيد شيئا من انسجامه الذي فقده منذ اللحظة الأولى للغزو الأميركي العام الماضي. هل كان المشهد السياسي في عهد النظام السابق يتمتع بالانسجام؟ هذا سؤال آخر. المهم أن المشهد الآن ينطوي على كثير من التناقضات، وعناصر التفجير. الأمر الذي يوحي بأن ما يحدث في العراق الآن قد يكون مقدمة لما يختفي وراء صور المشهد، وأخطر مما يبدو عليه في هذه اللحظة.
بالعودة إلى مشهد المحاكمة يمكن القول إنه يعتبر بكل تفاصيله قمة السقوط لقيادة كانت في يوم ما تتمتع بكل السطوة والمهابة داخل العراق، وكانت لاعباً أساسياً على مستوى المنطقة تحمل معها ثقل العراق، بكل قوته، وثروته وتاريخه. وفجأة، أو هكذا بدا الأمر، تحولت هذه القيادة إلى رمز للهزيمة والذل والانكسار. وعلى يد من؟ على يد قوة غزو واحتلال. قوة كانت قبل الاحتلال، وبعده تمثل رمزاً للخصومة لكل ما هو عربي. مشهد القيادة العراقية وهي تنتظر قدَرَها على يد خصومها من داخل العراق ومن خارجه، وهي تتحول إلى موضع للشماتة من ناحية، وللتعاطف من البعض من ناحية أخرى، هو بكل المقاييس أسوأ من مشهد مشابه عاشه الشاه محمد رضا بهلوي، شاه إيران في أعقاب انتصار الثورة عام 1979. آنذاك تهاوت غطرسة عرش الشاهنشاه في لحظة خاطفة، بعد أن ظل مهيمناً لعقود طويلة على مقدرات إيران، وعلى موازين القوة في منطقة الخليج. وبدوره، وفجأة أيضاً، أو هكذا بدا الأمر، سقط الشاه، ومعه سقط العرش"الإمبراطوري". لم يتعرض رضا بهلوي إلى محاكمة مُهينة كما تعرض، وسيتعرض صدام حسين. الظرف كان مختلفاً. لكن الذل والانكسار بقي كما هو، لأن شاه إيران، والآمر الناهي فيها، وجد نفسه طريداً خارج وطنه، يبحث عن مأوى، وعن مكان يوفر له فيما تبقى من عمره ملاذاً يعالج فيه مرض السرطان الذي بدا وقتها وكأنه تواطأ مع تنكر الزمن له، وجعل موقف الشاه أكثر ألماً وأكثر إذلالا.
اختلاف الظرف وتشابه النتيجة بين ما انتهت إليه تجربة الحكم في كل من العراق وإيران يطرح السؤال مرة أخرى: ما الذي حدث؟ وأين يفترق نموذج السقوط في التجربة الإيرانية عن نموذج السقوط في التجربة العراقية؟ لا يمكن تناول موضوع بهذا الغنى والتعقيد في هذه المساحة إلا لماماً. لذلك لابد من تسجيل أول وأهم ملاحظة عن الطريقة التي سقط بها نظام شاه إيران السابق. وهي أن