دارت الأرض دورتها، ووقع الجلاد بيد ضحاياه. في الماضي كانت الحياة أبسط، فـ"كش" ملك تعني الإعدام بتنوع وسائله، من شنق، ورمي بالرصاص، وسحل. وفي أحسن الأحوال أو أسوئها -حسب وجهة نظرك في الموضوع- كان السجن والنسيان أي إسدال الستار تماما على عهدهم البائد، انقلاب قصر صامت، وقفزة للأعلى من نائب الرئيس أو أحد الطامحين من النخبة السياسية أو العسكرية، حركة تصحيحية كما يحلو لهم تسميتها، انقلاب أبيض أو أحمر، تتبدل الأدوار، ومن جلاد يتحول بين ليلة وضحاها إلى المتهم رقم واحد. لا تعقيدات من جلسات محاكمة فدفاع فضجيج.. الحكم معروف مسبقاً، والمحاكم شكليات، لا داعي لها، فالرؤوس ستتساقط بكل الأحوال. ببساطة كلمة الرئيس لا تجتمع مع مفردة السابق، فالسابق تحمل معنى مزدوجا، حياً كان أم ميتاً. وقد كان صدام حسين محقا مبدئيا في الجلسة الإجرائية الأربعاء الماضي في رفضه لاستخدام كلمة السابق، فهي مفردة لم تدخل القاموس السياسي العربي، مجيبا بأنه "صدام حسين رئيس جمهورية العراق"..معترضا على استخدام القاضي مفردة السابق، ومجادلا "لا الحالي، مازلت. إنها رغبة الشعب".إنه محظوظ ، فلم تجر له محاكمة عسكرية أو ثورية وإلا لانتقل من خانة الرئيس المخلوع إلى الرئيس الراحل.ألم نقل كانت الحياة أبسط؟
حوكمت المحاكمة قبل أن تبدأ، وبدأت أصوات الإعلاميين من بقايا قوميين وعروبيين، ممن جعلوه رمزا للعروبة، وممن ألبسوه لباس القومية العربية المطبلين لمسيرته يجادلون على الساحة العربية بشرعية المحكمة، وشرعية الحكومة العراقية، وشرعية الشرعية، محاكمة سياسية أم قانونية، انتقام أم عدالة المنتصر.بدأت الأسئلة تتطاير فضائيا عن المشاعر العربية لرؤية "رئيس عربي" يحاكم.أسئلة تستدعي إجابات متطرفة لا تتضمن اللامبالاة بأي حال، مشاعر فرحة يمكن استشعارها من الشارع العراقي، ومشاعر هجينة من استنكار وغضب من الشارع العربي، الذي لم يدس عليه النظام العراقي، والذي هيجته أطروحات صدام عام 1990. ففي جلسة الأربعاء لم يكن صدام يخاطب المحكمة بل خاطب الشارع العربي الباحث عن بطل قومي.. الباحث عن تعويض في زمن الانكسارات العربية، ولو على صورة ديكتاتور العراق. لقد جادل بعض المثقفين بأن الحكومة العراقية الحالية غير منتخبة، ولا تمثل الشعب العراقي، وهم ينسون أنهم يستخدمون مفردات ديموقراطية لمحاكمة ديكتاتور وأركان نظامه الدموي.لولا القيم الديموقراطية التي بدأت بذورها في العراق الجديد لعادت الحياة أبسط، وقلبت صفحة من تاريخ العراق بالطريقة العربية المعهودة.
نعم إنها سابقة عربية تستحق التوقف عندها، فالتهم التي تلاها قاضي التحقيق سبع فقط، ولكنها تكفي لشنقه مئات المرات، لكن للأسف إن الموت واحد لا يتجزأ. لكن ثبوت التهم قانونيا يتطلب بينة قوية عن مسؤوليته المباشرة عن هذه الجرائم ضد الإنسانية. إن لصدام والأحد عشر متهما الحق في التمتع بالدفاع الشرعي عنهم، وإجراء المحاكمة بمهنية واحتراف حتى تصبح درسا في القانون، وتؤسس لثقافة سلطة القانون، فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته بعد أن كان المواطن العراقي متهما حتى تثبت البراءة.
إن العدالة مطلوبة، ولكننا جميعا نعلم أن هذه العدالة لن تؤدي إلى البراءة أو لغسل يديه ويد بقية المتهمين من دماء ضحاياهم. حقيقة، إن العقوبة في حد ذاتها لا تهمنا بقدر ما تهمنا إدانة تاريخ طويل، مازالت بعض صفحاته تستنسخ في دول عربية كثيرة، قد تتغير معها صور الجلادين والضحايا.وقبل أن يسدل الستار على جمهورية الخوف ستبقى صور الرئيس العراقي السابق حاضرة أمام كل جمهوريات وممالك الخوف العربي.
"أسكن في كل بيت عراقي".. جملة أجاب بها صدام استوقفتني كثيرا. كيف لا تسكن في كل بيت عراقي بعد أن ملأت البيوت بالأرامل والأيتام من ضحايا الحروب، وضحايا القمع الدموي؟ كُتب الكثير عن محاكمة الطاغية، وسيكتب الكثير، وستثير الضجة علنية المحاكمة، وستثير عقلية المؤامرة ما سيقتطع منها.قد ينقسم الشارع العراقي ومعه الشارع العربي. إنها "المحاكمة "حدث جديد.. صورة لا تتطابق مع مخزوننا الثقافي.. صورة لصنم هوى ولديكتاتور عربي سيدخل كتب القانون، ويخرج من كتب التاريخ.