منذ عامين، وعندما كان أصحاب التوجه الأحادي في إدارة "بوش" يصولون ويجولون، أخبرني مسؤول كبير في "البنتاجون" أن الشعار الساخر المتداول في أروقة مقر وزارة الدفاع الأميركية في ذلك الوقت كان :( يا حلف الناتو- حافظ على بقاء أسطورتك حية!). لا شك أن ذلك المسؤول لم يطرأ على خياله أبداً، أن رئيسه "بوش"، في نطاق استعداداته لخوص انتخابات الرئاسة لعام 2004، سوف ينادي بهذا الشعار - ولكن بدون سخرية.
"أنا لا أعرف حلفا حقق كل هذه النجاحات في أي فترة من فترات التاريخ مثلما فعل الناتو..." . كان هذا هو نص التصريح الذي أدلى به وزير الدفاع الأميركي "دونالد رامسفيلد"، الذي استعاد حماسته المعتادة للصحافيين الذين كانوا مسافرين معه لحضور قمة "الناتو" التي عقدت في اسطنبول مؤخراً. وقام "رامسفيلد" وغيره من مسؤولي الإدارة، بالثناء على قرار "الناتو" بالمساعدة في تدريب قوات الأمن العراقية ونشر المزيد من الجنود في أفغانستان.وفي ذلك كان الجميع يرددون صدى دعاوى "بوش" التي يقول فيها: إن الخلافات بين أعضاء الحلف والتي أدت إلى تقويض التحالف العام الماضي قد انتهت.
وهذه التصريحات تأتي بمثابة رد منطقي على التكتيك الذي يتبعه المرشح الديموقراطي للرئاسة "جون إف. كيري"، والذي يركز على استغلال سوء تدبير إدارة "بوش" لشؤون العلاقة مع حلف "الناتو"، وما ترتب على ذلك من عواقب في العراق، كجزء محوري من حملته الانتخابية.ويمكن القول:إن هذا الرد مثلما هو منطقي فهو صحيح أيضا، وخصوصا فيما يتعلق بالجزئية الخاصة بأن إدارة "بوش" تتلهف الآن إلى العمل مع الحلفاء في العراق وفي أفغانستان، وهو ما يتناقض مع الجفاء الذي تعامل به "رامسفيلد" منذ عام مع رغبة الحلفاء الأوروبيين في الانضمام.إن الجانب المحزن في هذا السياق هو أن سخرية "البنتاجون" القديمة تبدو الآن ملائمة أكثر من ذي قبل، فبعد أن تم توسيع الحلف كي يضم معظم دول أوروبا الوسطى، وبعد أن عقد الحلف العزم على التصدي لتهديدات القرن الواحد والعشرين، فإن الحلف الذي يمثل أهم شراكة دولية لأميركا، أصبح الآن على شفا فشل يهدد بشل حركته.وهذا الفشل لن يبقي للرئيس "كيري"- إذا ما قدر له أن يفوز في الانتخابات- أو الرئيس "بوش"- إذا ما فاز بولاية ثانية- سوى عدد محدود من الحلفاء كي يعملا معهم.
وهذا التهديد لن يأتي من العراق، حيث تحول الخلافات المستمرة بين أميركا والدول الأوروبية في الحلف وبين قيامه بعمليات عسكرية شاملة هناك، ولكنه سيأتي من أفغانستان وهي الدولة التي ينخرط فيها الحلف منذ فترة طويلة في مهمة لا تزال مستمرة حتى الآن.في العام الماضي، عقد الحلفاء العزم على التوسع في مهمة حفظ السلام المتواضعة في "كابول"، بحيث تمتد إلى المراكز الاقليمية المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد، وهي عملية في غاية الأهمية فيما يتعلق بتعزيز سلطة حكومة "قرضاي" الضعيفة الموالية للغرب، وتوفير المناخ والظروف المطلوبة لتنظيم الانتخابات الوطنية المزمع عقدها خلال هذا العام.
ولكن بعد إضاعة شهور طويلة في المساومات والمفاوضات، لم تلتزم الحكومات الأوروبية في اسطنبول سوى بتوفير الأفراد اللازمين لتكوين قوات لحفظ السلام في ثلاث من المقاطعات الأفغانية الرئيسية فقط.وكانت الطريقة التي تعامل بها أعضاء "الناتو" مع الطلبات الملحة التي تقدم بها الأمين العام للحلف الجنرال "جاب دي هووب شيفر" مهينة في الحقيقة.فمن بين 26 دولة تمتلك جيوشا يبلغ عدد أفرادها 5 ملايين جندي، فإن "شيفر" لم يحصل سوى على وعد بتوفير3 طائرات هليكوبتر فقط لعمليات الحلف في أفغانستان.علاوة على ذلك قام الرئيس "قرضاي" بمحاولات محمومة للحصول على المزيد من المساعدات من قمة "الناتو"، ولكن تلك المحاولات باءت بالفشل في معظمها.وكل ما تمكن الرجل من الحصول عليه هو مجرد وعد بتوفير ألفي جندي عندما يحين وقت الانتخابات، دون أن يدري أحد من بالضبط الذي سيقوم بتوفير هذا العدد من الجنود.على أحسن تقدير سوف يكون هناك 8400 جندي تحت قيادة "الناتو" بحلول الخريف وهو ما يعادل فقط خُمس العدد الذي قام الحلف بإرساله إلى كوسوفا الصغيرة في عام 1999. فعلى الرغم من أن الأمم المتحدة لديها قوات يبلغ تعدادها 14 ألف جندي في أفغانستان إلا أن هذه القوات غير خاضعة لقيادة "الناتو".
إن الاحتمال الذي يبدو ممكنا الآن، هو أن يتم تأجيل الانتخابات الأفغانية القادمة بسبب الافتقار إلى الأمن.وإذا ما حدث ذلك، فإن حلف "الناتو" سينال النصيب الأكبر من اللوم، كما أن التداعيات التي قد تترتب على ذلك فيما يتعلق بتماسك الحلف قد تكون وخيمة. حول هذا الأمر قال لي سفير دولة أوروبية في واشنطن:"إن أفغانستان هي محك المهمة الجديدة للناتو. فإذا ما فشلنا في أفغانستان فالأجدر بنا حينذاك هو أن نحزم أغراضنا ونعود إلى ديارنا لأنه ما من أحد سوف ينظر بجدية بعد ذلك."
وهذه الورطة التي يعاني منها الحلف تشير إلى الحقائق المختفية وراء تلك الأحاديث المغتبطة التي ترددت في اسطنبول الأسبوع ا