نبدأ بقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم- "أشد الناس عذاباً يوم القيامة، من أشركه الله في سلطانه فجار في حكمه"، ونعود إلى الصور الحية للديكتاتور السابق الذي بدا شاحباً قلقاً محاولاً أن يغطي خوفه من خلال لغة مزايدة مترفعة، ولكن العيون لا تكذب مهما تمرد اللسان، وما الكتابة على الورق الأصفر والتمنع عن التوقيع بحجة عدم الاستعجال إلا مؤشرات أن الصنم رجع إلى حجمه الإنساني وهيئة المتهم الخائف.
إننا فعلاً أمام محاكمة القرن العربية في عالم قلّما يحاسب، وعالم قلّما يرى القوي في مركز الضعيف، وهو ما شاهدناه في غرفة الاستجواب في قصر الرضوانية على شاشاتنا المتلفزة. ومن الحديث نشاز واضح، وصدام يكتشف الشرعية التي يمثلها، وإرادة الشعب التي انتهكها، متناسياً أنه لم يصل إلى سدة الرئاسة إلا من خلال العنف والإرهاب، ولم يبق على رأس السلطة إلا من خلال قسوة وظلم واضحين، أما شرف العراق الذي يتحدث عنه "القائد الضرورة"، فكلنا على بينة أنه المسؤول الأول عما وصل إليه حال العراق اليوم من خلال حماقته وسياساته الخرقاء، وفوق ذلك كله صدام، الذي يتحدث عن القانون و"الضمانات الرسمية" هو الذي أسس جمهورية خوف لا تعرف إلا قانون الغاب، جمهورية قطع اللسان والأذن واليد.
نعم لا يمكن إلا أن تكون محاكمة صدام حسين محاكمة سياسية ومهما حاولنا أن نضفي على هذا العمل أجواء قانونية ودستورية أكثر رصانة، فهي محاكمة أحد أكثر مستبدي العالم العربي قسوة، وهي محاكمة مسؤول عن جرائم إنسانية، ومقابر جماعية، وتشريد وإفقار شعب من أعرق الشعوب العربية، كما أنها محاكمة لفكر حزبي، سيطر على العالم العربي، وترك وراءه الخراب والهزيمة، وفصولاً من المعاناة الإنسانية. فكر جسّده حزب البعث في العراق، ولكنه لا يقتصر على البعث، بل يتجاوزه إلى العديد من الأحزاب الأيديولوجية العربية، والتي خدّرت ونهبت الشعوب العربية. كما أننا أمام محاكمة لنماذج استندت على الانفراد بالحكم، وهمّشت المؤسسات، وحكمت من خلال العلاقات العائلية والعشائرية لا عن طريق المؤسسات الحديثة. نعم إننا أمام محاكمة سياسية حتى النخاع، ولسنا أمام امتحان نصوص دستورية، والسبب أن صدام وغيره من مستبدي عالمنا العربي لم يجذروا التقاليد الدستورية والقانونية، وبالتالي ومهما حاولنا "التمظهر" بهذه المساحيق، نبقى في الحقيقة أمام مناخ السياسة فيه غالبة والقانون والدستور نصوص تنتظر من يبعث فيها الحياة.
ومع هذا يبقى أن طبيعة المحاكمة والتمسك بالضمانات القانونية مهم للعراق الجديد، الذي يمر بمخاض عنف لم يتوقعه أحدنا. فالتأسيس للدولة الديمقراطية من أهم دعاماته القانون والنصوص والمؤسسات، وقد يعدنا البعض من الحالمين في عراق ما زالت اللغة السائدة فيه لغة الأكياس البلاستيكية والمتفجرات والنحر والإرهاب، ولكنه عالمنا والعراق بلدنا ولا يجب أن نيأس وأن نفقد التفاؤل. ومن هذا المنطلق نأمل أن تكون المحاكمة التي بدت فصولها حدثاً علنياً وشفافاً، ودع الديكتاتور يقول ما يشاء، فنحن نعلم أن يديه ملطختان بدم الأبرياء، ونعلم أن حكمه قام على البغي والجور، ومن خلال التعامل الصحيح مع هذا الوحش البشري نأمل أن يرسي العراق الجديد ممارسات حضارية، وأن يبدأ في تغيير الفكر السياسي العربي والذي مثل جانباً كبيراً منه متهم منتجع الرضوانية.