في أثناء الحرب العالمية الثانية وقبل نهايتها بقليل، فرضت القوات النازية حصاراً غذائياً على الجزء الغربي من هولندا. هذا الجزء المكتظ بالسكان كان يعاني أساساً من شح شديد في الموارد الغذائية، بسبب خراب الأراضي الزراعية نتيجة الحرب، وبسبب حلول شتاء قاسٍ تزامن مع الحصار الألماني. كل تلك الظروف مجتمعة تسببت في وقوع ما أصبح يعرف بشتاء المجاعة الهولندية (Dutch Hunger Winter)، والتي تسببت حينها في وفاة أكثر من 30 ألف شخص جوعاً. ورغم أن مثل هذه المأساة تكررت كثيرا في أوقات الحروب والصراعات المسلحة، إلا أن المثير في هذه الواقعة هو ما استشفه العلماء لاحقا منها، وخصوصا على صعيد تأثيراتها طويلة المدى على الأجيال المتعاقبة. فمن خلال سجلات المواليد خلال تلك الفترة، وما احتوته من معلومات تفصيلية، قام العلماء بتحليل الآثار الصحية طويلة المدى التي عاني منها لاحقا كل من تعرضت أمهاتهم لنقص شديد في الغذاء أثناء الحمل خلال المجاعة. هذه الآثار الصحية السلبية تشمل نقصان الوزن عند الولادة، والإصابة بالسكري والسمنة وأمراض شرايين القلب وسرطان الثدي وغيره من أنواع الأمراض الخبيثة. ورغم أن من الثابت طبيا - والمعروف حتى بين العامة منذ قديم الزمان- أن غذاء الأم وما يحتويه وما ينقص منه له تأثيرات صحية على أطفالها، إلا أن الجديد كان مدى سلبية تلك الآثار ومدى فداحة الأمراض التي عانى منها الأطفال لاحقا. ولكن كانت المفاجأة الحقيقية في أن أحفاد من نجوا من تلك المجاعة، ظلوا يعانون هم أيضا من آثار صحية سلبية، وخصوصا نقص الوزن وصغر الحجم عند الولادة، رغم أن آباءهم عاشوا حياة رغدة توفر فيها ما لذ وطاب من الغذاء الصحي المتوازن. هذه المفاجأة أظهرت وللمرة الأولى، أن غذاء الأم الحامل لا يؤثر عليها وعلى أطفالها فقط، بل تمتد تلك التأثيرات الصحية عبر الأحفاد والأجيال المتعاقبة. وسرعان ما أثبتت الدراسات الأخرى وجود مثل تلك العلاقة، بل أثبت بعضها أن مدى توفر الغذاء للجد والجدة قبل أن يصلا إلى سن البلوغ، له علاقة باحتمالات الإصابة بالسكري وأمراض القلب بين الأحفاد! وهو ما يعني أن حالتنا الصحية الحالية ليست هي نتيجة ما نتناوله من طعام يومي، أو مدى توفر الغذاء الصحي لآبائنا وأمهاتنا خلال حملهن، بل هي أيضا نتيجة ما تناوله أجدادنا من طعام من حيث الكمية والنوعية!
ولكن أليس هذا تعارضا واضحا مع بديهيات علم الجينات وتضاربا مع قوانين "مندل" التي تقوم عليها أساسيات علم الوراثة؟ ولكي نفهم من أين يأتي هذا التعارض والتضارب، ودلالاته على فهمنا الحالي للصحة والمرض، يجب أن نتخيل معا تاريخ عائلة عبر ثلاثة أجيال. تبدأ هذه العائلة بتوأم متشابه من الإناث، وهو ما يعني تطابقهن في التركيبة الو راثية الجينية، بحيث تعتبر كل واحدة منهن نسخة طبق الأصل عن الأخرى. ولكن تشاء الظروف أن تنفصلا، بحيث تعيش إحداهن حياة رغدة وفيرة في الطعام والغذاء، بينما تتعرض الأخرى لظروف معيشية قاسية تتسبب في إصابتها أثناء حملها بنقص حاد في المكونات الغذائية الضرورية. وكما هو متوقع يتمتع أطفال المرأة الأولى بالصحة والعافية، بينما يصاب أطفال الأم الثانية بالأمراض والعلل الناتجة عن تعرض أمهم للنقص الغذائي الخطير أثناء فترات الحمل. وتستمر القصة بشكل يعيش فيه جميع أطفال الجدتين بدون استثناء، حياة سعيدة يتوفر فيها لجميعهم ما لذ وطاب أثناء الطفولة والمراهقة والحمل والولادة. ولكن تكمن المفاجأة في أن أطفال الجدة التي تعرضت للمجاعة يوما ما، لا زالوا ينجبون أطفالا مصابين بالعلل والأمراض التي تلعب الوراثة دورا محوريا في الإصابة بها. وهو ما يعني أن الظروف البيئية قد أحدثت تغيرات في التركيبة الو راثية لذرية الأم الثانية، وهو الواقع الجديد الذي أصبح ينظر من خلاله في محاولتنا لفهم الأمراض وكيف تنتقل من الآباء إلى الأبناء. فالمعرفة العامة سابقا، كانت تؤكد أن المرض الوراثي ينتقل من جيل إلى آخر من خلال الجينات المعيبة، ولكن مؤخرا أصبح العلماء يدركون بشكل أكبر دور البيئة في تغيير التعبير الوراثي، وهو ما أدى إلى نشوء علم جديد يطلق عليه (Epigenetics). وبما أنه حتى في الوسط العلمي لا زال هناك تضارب واختلاف حول التعريف الدقيق لهذا العلم، يصبح من الصعب ترجمته إلى اللغة العربية بشكل دقيق، وإن كان يمكن – توخياً للتوضيح- أن نترجمه بعبارة علم الوراثة البيئية أو علم الصفات الوراثية التي تنتقل من جيل إلى آخر وتلعب الظروف البيئية دورا محوريا في تشكيلها. فمثلا إذا ما كانت لا توجد لدي أية جينات تسبب إصابتي بالسمنة، وأدت الظروف البيئية من إفراط في تناول الغذاء وقلة الحركة إلى إصابتي بالسمنة، فيمكن ساعتها أن أنقل هذه الصفة إلى أحفادي رغم عدم وجودها في أسلافي!
هذا الواقع العلمي الجديد والذي يطلق عليه مفهوم وراثة الصفات المكتسبة (Inheritance of acquired characteristics)، أو "الوراثة اللاماركية"، كان قبل سنوات يعتبر من الهرطقة العلمية، ومصدرا للفكاهة وا