وجد الروائي الكاثوليكي الفرنسي جورج برنانوس نفسه في البرازيل عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية. وعندما عاد إلى بلده الأم، سألوه عن التغيير الذي لاحظه في أوروبا بعد فترة عيشه في المنفى طوال فترة الحرب، فأجاب قائلاً:"بوجود معسكرات (الاعتقال) ظهر الشيطان من جديد على نحو واضح فوق العالم".
فماذا ينبغي أن يقال، بعد مضي 60 سنة، على قيام أكبر وأقوى دولة ديمقراطية في العالم تبنت التعذيب؟ وما هي الدلالات الأخلاقية الكامنة في تبني الولايات المتحدة لسياسة التعذيب واستحداثها للسجون السياسية السرية الأميركية؟ لابد من طرح هذا السؤال على الأميركيين قبل غيرهم. فمن الواضح أن التعذيب حظي بالتآمر أو التأييد أو القبول من جهة مسؤولين في حكومة الرئيس جورج دبليو بوش، وليس فقط من جهة ضباط في قواتها المسلحة أو دوائرها السرية.
وقد جرت ممارسة التعذيب بالترافق مع الآراء القانونية والمبررات المدروسة بعناية والتي قدمتها وزارة العدل والمحامون في البيت الأبيض، إضافة إلى مسؤولين قانونيين آخرين في إدارة بوش. وقد تمت دراسة المسألة بتمعن في مكتب الرئيس، وهذا ما قيل لنا، لكن الرئيس جورج دبليو بوش يقول إنه لم يصرّح على الإطلاق أو يصدر تفويضاً بممارسة التعذيب. غير أن ممارسة التعذيب استمرت على رغم ذلك. وكان تبني التعذيب كممارسة من ممارسات الاستجواب هو الخطة الأهم التي اتخذتها الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر 2001، أي عندما قرر الأميركيون، أو على الأقل زعماؤهم، أن "من غير الممكن أن تبقى الأمور على حالها". وقد برهن ذلك على أنه يعني احتراماً منقوصاً للقانون الداخلي والاتفاقيات الدولية التي تحرّم التعذيب، ونبذاً للتأويل الأميركي الراسخ الجذور لميثاق الحقوق في ما يتعلق بمعاملة أسرى العدو.
ففي يوم الاثنين الواقع في 28 يونيو الماضي، حكمت الأغلبية في المحكمة العليا الأميركية ضد مزاعم إدارة بوش بأنها تمتلك صلاحيات استثنائية في "زمن الحرب" تجيز لها تجاهل أو تعطيل أو إبطال التعديلين الخامس والسادس من دستور الولايات المتحدة أو إعلان عدم قابليتهما للتطبيق.
وينص التعديل الخامس من الدستور الأميركي على أنه "لا يجوز حرمان أي شخص من الحياة أو الحرية أو الملكية دون اتباع عملية قانونية ملائمة". ويعلن التعديل السادس أنه في المحاكمات الجنائية:"يجب أن يتمتع المتهم بالحق في الخضوع لمحاكمة علنية ومستعجلة... وفي إبلاغه بطبيعة وسبب الاتهامات الموجهة إليه، وفي مواجهته بالشهود المضادين، وكذلك بالحق في إجراء العملية الإلزامية المعنية بحصوله على شهود مؤيدين له، وفي الحصول على المساعدة من محام لكي يدافع عن نفسه".
وقد قالت المحكمة العليا إن هذه القوانين سارية ومطبّقة على المواطنين المحرومين من الخضوع لعملية قانونية ملائمة ومنهم "المقاتلون المعادون"، وكذلك الأمر على الأشخاص المحتجزين في قاعدة غوانتانامو البحرية في كوبا، والتي ستبقى الولايات المتحدة مسيطرة عليها إلى ما شاء الله، وهي المكان الذي أعلنت إدارة بوش أن بنود ميثاق الحقوق لا تنطبق عليه.
وابتداءً من عام 2001، تم إنشاء معسكر السجن في غوانتانامو، إضافة إلى "منشآت الاحتجاز" التي أُبقيت سرّية بعيدة عن الصحافة الأميركية والجمهور الأميركي. وتحمل هذه الشبكة تشابهات مخيفة، من حيث طبيعتها الجوهرية وعزل السجناء المتعمد عن أية مؤسسات قضائية وقانونية أميركية وعن أية ضمانات دستورية، بالسجون والمعسكرات النازية والسوفييتية والمعسكرات التي انتشرت في عقود الاستبداد.
ومن هنا أصبحت الأحكام الأخلاقية وحتى اللاهوتية على ما فعلته إدارة بوش أمراً محتوماً. ذلك أن الرئيس قد دعا إلى هذا بفعل تبريره المتكرر لشن الحرب على الإرهاب باستخدام مفردات دينية معلناً أن السجناء المحتجزين لدى الولايات المتحدة الأميركية هم "شر"، ومقاوماً بذلك وللسبب المذكور منحهم الحماية القانونية والحماية التي تقدمها لهم حقوق الإنسان.
وفي سياق الرد على ذلك، يمكن للمرء أن يستشهد بقول صدر في الآونة الأخيرة عن آل غور، وهو المرشح الديمقراطي الرئاسي المهزوم في عام 2000. وقال آل غور إن "من أوضح المؤشرات على الفقدان الوشيك للعلاقة الوثيقة الحميمة التي تربط المرء بروحه، الإخفاق في إدراك وجود روح في أولئك الذين تتم ممارسة القوة عليهم، ولاسيما إذا وصل العاجزون الذين لا حول لهم ولا قوة إلى مرحلة التعامل معهم كما تُعامل الحيوانات، وإلى إذلالهم". هكذا يكون تعريف التعذيب. فأولئك الذين يقومون بإذلال الآخرين يكشفون عن انحطاطهم وعن انحطاط أمتهم.
وقد كانت نسبة المغزى الديني أو اللاهوتي إلى الأحداث السياسية ممارسةً شائعة في البيت الأبيض في عهد بوش، وذلك وفقاً لضغط منظم مارسه اليمين البروتستانتي التبشيري الذي يحمل أعضاؤه توقعات من سفر الرؤيا في الكتاب المقدس الذي تنبأ باقتراب يوم القيامة والأيام الأخيرة من حياة العالم. لكن تلك معتقدات لا يشاركهم فيها الجمهور الأميركي ككل.
ولكي نعطي الرئي