الكل عربياً وأجنبياً وحتى عراقياً يتساءل متى تنتهي الفوضى الأمنية في العراق؟ ولكن لم يتوقف أحد ليطرح الأسئلة الأهم: ما هي الأسباب التي أدت وما تزال إلى هذه الفوضى؟ من هم أصحاب المصلحة الحقيقية من استمرارها؟ ما هي الحلول الممكنة أو الخيارات المتاحة لإعادة الأمن الداخلي والاستقرار للعراق؟ بعد مرور أكثر من عام على زوال نظام الطاغية صدام حسين، بات العراق يواجه معضلة أمنية، البعض يعتبرها قابلة للحل، ولكن كثيرين يشعرون باستعصائها على الحل حتى على المدى البعيد. لذلك نحاول في هذا المقال إجراء مناقشة موضوعية للأسباب المختلفة التي أدت إلى تعقيد الوضع الأمني في العراق، حيث تتنوع هذه الأسباب ما بين خارجي وداخلي. من الأسباب الخارجية التي تكرر ذكرها كثيراً أن الولايات المتحدة قد خططت جيداً للمرحلة العسكرية لغزو العراق ولكنها لم تكن مستعدة لمرحلة الاحتلال وإعادة ترتيب البيت العراقي. ولكن الحقيقة أن الإدارة الأميركية قد ضللت وأضلت. فقد اعتمدت على مجموعة محدودة لصنع قرار الغزو وهي تفتقد الفهم الحقيقي والواقعي للأوضاع الداخلية في العراق وتداعيات تاريخه السياسي في ظل المعلومات الزائفة التي قدمها لهم بعض العراقيين في المنفى سواء حول القدرات العسكرية العراقية أو استقبال الشعب العراقي للقوات الأميركية بعد التحرير. بل أكدوا قدرتهم على المساهمة في السيطرة على الأوضاع الداخلية. ولكن في الوقت نفسه يجب ألا يغيب عنا أن الإدارة الأميركية كانت مستعدة لأن تقبل بهذا التضليل لأنه يوفر لها الأساس لغزو العراق، وشعروا بقدرتهم على فرض الاحتلال دون أن يأخذوا العبرة بأن خبرتهم في ذلك مأساوية الطابع، في ظل شعور عام ساد إدارة بوش الصغير أن أميركا القرن الحادي والعشرين تختلف عن أميركا القرن الماضي. وما حدث في فيتنام وغيرها من أخطاء وتورط لن يتكرر. وبعد الغزو توالت الأخطاء الأميركية من حل الجيش وقوات الشرطة والأجهزة الأمنية العراقية من دون أن تقدم البديل الفوري لهذه المؤسسات، رغم حقيقة أن القوات العسكرية لأي دولة في العالم لا تستطيع القيام بمهام حفظ الأمن الداخلي، وفي الوقت نفسه لم تأخذ بعين الاعتبار أن الاحتلال مكروه حتى لو جاء بكل خيرات الأرض. ومن ثم ستكون هناك مقاومة إذا شعر الشعب العراقي بأنه وقع ضحية احتلال عسكري، ولم تقم القوات الأميركية بأي تنسيق مع المليشيات العراقية باستثناء البشمركة، وتناست الباقين، الذين لم يقبلوا تجاهلهم بالطبع وحاولوا إثبات وجودهم على أرض الواقع. وليس ما حدث من مليشيات الصدر والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية ببعيد.
أما بعض دول الجوار المهمة فلم تفعل شيئاً لتحول دون تسلل أي عناصر أو جماعات خارجية تحاول دخول العراق، رغم تأكدها من عدم وجود قوات عراقية لتأمين الحدود العراقية البرية والبحرية من جانب، وأن حدوث فوضى أمنية واستمرار حالة عدم الاستقرار في العراق سينعكس عليهم إن آجلاً أو عاجلاً من جانب آخر. وبعد سقوط نظام الطاغية استغلت بعض الدول المجاورة الوضع وأسرعت لدعم بعض الجماعات العراقية لتأخذ جزءاً من كعكة السلطة الجديدة، وبالطبع يؤدي ذلك في النهاية إلى إذكاء الصراعات الداخلية والتكالب على السلطة على حساب استقرار العراق، بل إن بعض هذه الدول لم يخف فرحته بحدوث ذلك، لأنه يعني تورط أميركا وتعرضها لخسائر قد تشغلها لفترة بعيداً عنهم.
أما بالنسبة للوضع الداخلي في العراق، فإن ثقافة العنف التي زرعها النظام العراقي عبر أكثر من ثلاثة عقود أثمرت الانتقام والانفلات والفوضى بعد أن زالت يد البطش والطغيان، ولم يكن أحد بحاجة للحصول على السلاح فهو متوافر بكثرة هائلة داخل أرض العراق، وسبق لنظام صدام نفسه توزيع الأسلحة على العراقيين قبل الغزو أملاً في مساهمتهم في الدفاع عن العراق أو ربما كان يفكر فيما سيحدث بعد الغزو، ناهيك عن فدائيي صدام الذين دربهم قصي لمقاومة الهجوم الأميركي أو اغتيال كل من تسول له نفسه من العراقيين التخلي عن المقاومة. ومما زاد الطين بلة المعاملة اللاإنسانية من قوات الاحتلال للشعب العراقي وتعديهم على حرماته وتقاليده من جانب، والأخطاء المتوالية التي وقعت فيها القوات الأميركية في العراق من قتل جماعي غير مبرر وقبض عشوائي وسجن وتعذيب وقهر من جانب آخر.
ويأتي قبل كل ما سبق التدهور الحاد في الظروف المعيشية؛ والنقص الشديد في الحاجيات الأساسية الذي تعانيه أغلب فئات الشعب العراقي التي تعيش حالياً تحت خط الفقر، وإحساسها بأن قوة الاحتلال لا تفعل ما يكفي للتغلب على هذا الوضع. وهذا الأمر ساعد على تهيئة البيئة الملائمة للعنف والحقد في مواجهة الاحتلال. ووسائل الإعلام توضح الصورة بجلاء، فعند تعرض القوات الأميركية لأي خسائر تجد الفرحة في أعين بعض العراقيين العاديين. وإذا أردنا التعرف على من يقف وراء الانفلات الأمني الراهن في العراق، يجب أن نحدد أصحاب المصلحة في استمرار ذلك، وما هي الجهات التي تتعرض للخسائر؟
من المؤكد أن أصحاب المصلحة الأساسية