على رغم أن الاتجاهات الحالية لمناخ كوكب الأرض تشير إلى دخول الكوكب في فترة من الإحماء الحراري، فإن علماء المناخ كانوا يطرحون دائما سؤالا يتناقض مع تلك الاتجاهات. هذا السؤال هو: هل الأرض مقبلة على عصر جليدي جديد يضع حدا للفترة الدفيئة التي استمرت زهاء 12 ألف عام، وشهدت ازدهار الحضارة الإنسانية. هناك علماء آخرون كان لهم رأي آخر حيث كانوا يقولون إن ذلك العصر الجليدي كان يجب أن يأتي منذ زمن طويل، على اعتبار أن الفترات الدفيئة الثلاث التي سبقت الفترة الحالية لم يستمر أي منها سوى عشرة آلاف سنة فقط. تلك هي الأسئلة والآراء التي كان علماء المناخ يطرحونها، ولكننا نفاجأ الآن بدراسة جديدة تقول لنا شيئا مختلفا. يقول العلماء المشرفون على هذه الدراسة التي طال انتظارها إنه قد توفر لهم دليل جديد تم استخلاصه من أقدم الطبقات الجليدية في القارة القطبية الجنوبية يثبت بما لا يدع مجالا لشك أن كل ما قطعته البشرية في العصر الدفيء الحالي لا يزيد على النصف. ويذكر في هذا السياق أن بعض العلماء قد قدموا فرضيات مماثلة في الماضي، وأن هذه الفرضيات كانت تقوم على أساس الشكل الحالي لمدار الأرض، والذي يبدو أنه يضبط الإيقاع الذي ترقص عليه العصور الجليدية. وأنماط الحرارة التي تم الكشف عنها في رواسب قيعان البحار في السنوات الأخيرة تدعم هي الأخرى هذه النظرية. بيد أن العلماء يقولون إن الدليل الجديد الذي تم التوصل إليه هو الأقوى تأييدا للنظرية حتى الآن، لأنه يكشف النقاب عن العديد من أوجه التشابه بين الأنماط الحرارية والمناخية الموجودة في عالم اليوم، وتلك التي سادت في الفترات الدفيئة طويلة الأمد في الماضي والتي استمر بعضها زهاء 28 ألف سنة.
وتفاصيل الاكتشاف الجديد موضحة في عدد مجلة نيتشر (الطبيعة) الصادر أوائل شهر يونيو الماضي بإشراف علماء وباحثين مما يعرف بالمشروع الأوروبي لحفر ثلوج القطب الجنوبي. وهذا الاكتشاف يتمثل في عمود من الثلج قام العلماء باستخراجه على مدى خمس سنوات مضنية وشاقة من الأعماق المتجمدة للقطب الجنوبي، التي تتكون من آلاف الطبقات الثلجية التي تكونت بدورها من خلال تراكم وانضغاط كميات الثلج المتساقطة عبر العصور. وأعمق مسافة تم استخراج الثلج منها حتى الآن تقع على عمق 10 آلاف قدم، ويعود تاريخها إلى 740 ألف عام، علما بأن الوفرة النسبية لبعض أشكال الهيدروجين في الثلج تمثل في حد ذاتها دليلا يمكن الاستناد عليه في معرفة درجات حرارة الهواء في الماضي.
ويذكر في هذا السياق أن العلماء قد قاموا من قبل باقتطاع أجزاء من طبقات الثلج العميقة من أنهار جليدية مختلفة، وأغطية ثلجية منتشرة في مناطق مختلفة في العالم، ولكن أياً من تلك الأجزاء المقتطعة أو الأعمدة الثلجية Ice Shaft لم يتجاوز عمره 420 ألف سنة، وهو ما يجعل عمود الثلج الحالي، الأول من نوعه الذي يمكن أن يدلنا على معلومات كاملة عن الظروف التي سادت خلال الفترة الدفيئة الطويلة الأمد، والتي يطلق عليها العلماء والباحثون فترة تيرمينيشن – 8 (Termination - 8).
كان هذا ما قاله الدكتور إريك دبليو وولف مؤلف الورقة البحثية التي تقدم بها الخبير في حفر الثلج، الذي يعمل لدى هيئة مسح القطب الجنوبي البريطانية. وقد صرح العديد من الباحثين المستقلين ممن لديهم اهتمام بهذا الموضوع بأن الدليل الذي كان يؤكد أن الفترة الدفيئة الحالية ستستمر لفترة طويلة من الزمن قد أصبح دليلا يكتسب درجة كبيرة من المصداقية الآن. ولكن هناك خبير آخر هو الدكتور جيرارد سي. بوند من مرصد "لا مونت دوروثي إيرث" في جامعة كولومبيا أدلى بتصريح مختلف قال فيه: حتى لو كانت الخصائص المدارية الحالية للأرض مماثلة لما كانت عليه منذ 400 ألف سنة خلت، وحتى لو كانت سجلات حرارة البحر وثلوج القطب تظهر درجات حرارة متماثلة، فإن وجود شبيه أو نظير واحد لا يكفي لتكوين نمط.
ومع ذلك، فإن الدكتور "جيري إف. ماكمانوس" من معهد "وودز هول" لعلوم المحيطات، والخبير في تاريخ المحيطات والمناخات السابقة، كتب تعليقا لمجلة "نيتشر" أيضا، وصف فيه العمود الثلجي الجديد الذي تم استخراجه من أبعاد سحيقة من القطب الجنوبي بأنه "يمثل كشفا رائعا". وقال ماكمانوس، إن ذلك العمود الثلجي يكتسب أهمية خاصة لأنه يعتبر الأول من نوعه الذي يوفر لنا رؤية كاملة عن الظروف التي كانت سائدة خلال الفترات الدفيئة التي سادت في الماضي، والتي يتشابه معظمها مع الفترة الحالية.
بعض العلماء المعنيين بدراسة الموضوع يقولون إن المعلومات التي تم الحصول عليها من العمود الثلجي المستخرج من القارة القطبية الجنوبية ليست هي نهاية المطاف، لأن هناك معلومات أخرى يمكن الحصول عليها من خلال إجراء المزيد من الدراسات على ذلك العمود. فعلى سبيل المثال نرى أن الباحثين لم يبدؤوا سوى من فترة قريبة جدا في تحليل ذرات الهواء المحتجزة داخل طبقات الثلج عندما كانت تلك الطبقات في طور التكوين. وهذه الذرات تشكل في الحقيقة أرشيفا للظروف المناخية التي سا