لا شك أن أحد أهم أسباب الضعف الداخلي والخارجي للدولة العربية هو شيوع الفساد. فالفساد هو لغة البلى والتحلل وهو تفكك الأشياء وضياع سماتها الأصلية المفيدة. وهو اجتماعيا حالة تفكك تعتري المجتمع نتيجة فقدانه القانون الكلي الذي يربط مفرداته وأعضاءه معا. ولهذا يستحيل أن يكون المجتمع الفاسد قويا أو أن تكون الدولة التى يدهمها الفساد قوية. فالقوة هي سمة للنظام الاجتماعى والسياسي وتحصل عندما يتمكن المجتمع أو تتمكن الدولة من الوصول الى أعلى مستويات التماسك حول قيم جوهرية فيخوض أشد التجارب أو ربما أشد الحروب ضراوة بأعلى مستويات الكفاءة. وغالبا ما تكون هذه القوة كافية لتجنب الحروب لأنها تكون دالة على القدرة على الصمود وعلى ردع أعمال العدوان. وقد يكون المجتمع موفور الموارد فى كل المجالات ويكون ضعيفا ومنكشفا أي فاقدا للمناعة الداخلية والخارجية وذلك لأن مفرداته العضوية ومواطنيه ليسوا راغبين في التضحية دفاعا عن قيم جوهرية مشتركة ولأن قدرة الدولة على تعبئة تلك الموارد منخفضة. ويحدث ذلك غالبا لأن الفساد يكون قد فكك المجتمع والدولة.
ومن أكثر الألغاز صعوبة في التاريخ أن نجاح الدول في مناهضة الفساد داخلها هو استثناء أكثر منه قاعدة. ووصلت حملات كثيرة ضد الفساد الى حد اليأس. فسقطت امبراطوريات كانت تملأ السمع والبصر بسبب الفشل في مناهضة الفساد. كان هذا هو حال الامبراطورية الرومانية وايضا حال الامبراطورية العثمانية، ولا يختلف الأمر بالنسبة للدولة السوفياتية. لم يستلزم الأمر سوى هجوم من بضعة قبائل همجية لسقوط روما عاصمة الامبراطورية الرومانية لأن الفساد كان قد أهلك قوتها. أما الامبراطورية العثمانية فقد سقطت بفضل الحركة الاصلاحية التي قادها الكماليون لأنه لم يتوفر لها سلطان راغب أو قادر على وقف الفساد العلني فيها. وبعد محاولة يائسة من جانب أندروبوف سقطت الامبراطورية السوفيتية ضحية هذا المرض بين أمراض أخرى ومن تلقاء نفسها دونما دور كبير للأعداء الخارجيين. لماذا غالبا ما لا تنجح الحرب ضد الفساد فيما لو وقعت تلك الحرب في انقاذ المجتمعات والدول بل والامبراطوريات الكونية التاريخية؟ وكيف نحل هذا اللغز؟ وكيف نفيد من الخبرة التاريخية في انقاذ دولنا العربية من هذا المرض اللعين؟
ليس لدينا في علوم المجتمع والتاريخ حلول كاملة لهذا اللغز. كل ما لدينا هو نقاط ارشادية. وسوف نكتفي هنا ببعضها. من هذه النقاط الارشادية أن منحنى عدم النزاهة يبدأ في أي مجتمع في أية لحظة من نقطة ما فوق الصفر. وتتفاوت المجتمعات من حيث كمية هذه النقطة في المقياس. ولكن عند نقطة زمنية معينه يبدأ المنحنى في التصاعد السريع. ويعني هذا التصاعد أن الفساد يصبح ظاهرة أجتماعية رئيسية ويمس المجتمع بأسره. ولذلك بينما تكون مناهضة الفساد أمرا سهلا نسبيا قبل أن يتصاعد المنحنى: أي في الوقت المناسب، يصبح أمرا بالغ الصعوبة كلما مر الزمن دون حرب حقيقية عليه. ويعني ذلك أن الاصلاحات المبكرة قد تسعف المجتمع وأن التأخر في الاصلاح يعني أرجحية وربما حتمية فشله.
من ناحية ثانية فان أحد الدروس الأساسية من التجربة التاريخية والمقارنة أن الأسلوب القمعي - مثله في ذلك مثل أسلوب المناشدات الأخلاقية الصرفة- غالبا ما يفشل. وهذا هو السبب في أن عشرات من الانقلابات العسكرية فى دولة ما بعد الاستقلال في أفريقيا وأسيا وأميركا الجنوبية وهي التى قامت أصلا بحجة القضاء على الفساد تغرق في المستنقع بأشد مما كان عليه الحال قبل قيامها.
تنجح الحرب ضد الفساد فقط عندما تقوم الدولة بتغيير جذري للترتيبات التوزيعية المادية أي عندما يدخل الى الصورة عقد اجتماعي جديد يستعيد للدولة شيئين جوهريين: السلامة المالية والاستقلالية السياسية عن جميع القوى الاجتماعية بما في ذلك الاستقلالية عن رجال الدولة الكبار.
فالسلامة المالية هي شرط جوهري لضمان قدرة الدولة على أن تدفع مرتبات حقيقية مرضية لموظفيها حتى اذا بدأت حملات التطهير والضبط صارت لديها فرصة حقيقية في فرض النزاهة والانضباط المالي لدى موظفيها وخاصة هؤلاء القائمين على تطبيق القانون. واستعادة السلامة المالية للدولة ليست بالأمر الهين لأنها تتطلب ترتيبات جديدة كليه في مجال توزيع الدخل واستعادة التوازن بين الدخول والأسعار، ويتطلب ذلك بدوره اقتصادا سياسيا جديدا.
ويدلنا الشرط الثاني على أكثر العمليات صعوبة في التاريخ: أي قدرة الدولة ككيان مجرد على تحقيق استقلالها الفعلي عن رجالاتها ذاتهم وهم الذين عادة ما يبدأ بهم الفساد وإن كان لا ينتهي عندهم بحال. فما أن يخسر رجال الدولة نزاهتهم حتى ينتهك المرض ويجهد جسد الدولة والمجتمع معا على كل المستويات. ولذلك لا يكون لعقد المحاكمات لأي عدد من الفاسدين دلالة أو قدرة على انهاء الفساد كمرض اجتماعي وسياسي. ومن هنا نقول إن استعادة قوة الدولة العربية لن يكون ممكنا بمجرد التخلص من بعض الفاسدين مهما كان عددهم وإنما عندما تعاد صياغة الدولة عبر عقد اجتماعي