إن الصغير يرث الكبير كما يرث الأبناء الآباء. تلك سُنة الحياة. والشعوب والحضارات كذلك. إذ يتصدر شعب لقيادة العالم، وتصبح حضارته نموذجا لحضارات البشر. هكذا كانت مصر القديمة والصين والهند وفارس وحضارات ما بين النهرين وكنعان ثم اليونان والحضارة العربية الإسلامية قبل أن تنتقل إلى الغرب الحديث، (وتلك الأيام نداولها بين الناس). ومصر نموذج لذلك. فقد كانت حضارة رائدة في العصور القديمة، مازالت أسرارها يتم اكتشافها يوما بعد يوم، في السلم والحرب، في البناء وفي الدفاع. دافع عنها أحمس ورمسيس. ونادى إخناتون فيها بالتوحيد. وحافظت عليه في العصر القبطي بفضل آريوس، رئيس أساقفة الإسكندرية. وأعطى أنطونيوس العالم أصول الرهبنة والحياة الروحية. ومدرستها القديمة ومكتبتها كانت منارة للحكمة والعلوم. ثم فتحها عمرو بن العاص. وقام فيها صلاح الدين. ومنها بدأ الدفاع عن العالم الإسلامي ضد الصليبيين القادمين من الغرب حتى حرر القدس. ومنها قام الظاهر بيبرس للدفاع عن العالم الإسلامي ضد التتار القادمين من الشرق وهزيمتهم في عين جالوت قبل أن تسقط دمشق بعد أن سقطت بغداد.
وأعاد محمد علي بناء مصر الحديثة كي تنافس الغرب في التقدم والعلم والقوة العسكرية، ولإحياء الخلافة العثمانية التي تكالبت عليها قوى الاستعمار في الغرب والشرق للقضاء عليها. فتكالب عليه الغرب.
ثم جاء عبد الناصر لإعادة بناء مصر، وتحريرها من الاستعمار، والقضاء على التخلف، وجعلها بؤرة لتحرير العرب وتوحيدهم. بل وامتد ذلك إلى أفريقيا وآسيا وباقي شعوب العالم الثالث منذ باندونج حتى بلجراد. وتكالبت عليه القوى الغربية من جديد بالسياسة وبالعدوان المباشر كما حدث في العدوان الثلاثي في 1956 ثم في العدوان الصهيوني في 1967 لإنهاء دور مصر. ونهضت مصر من جديد بحرب الاستنزاف في 1968-1969 ثم بحرب أكتوبر 1973 استردادا لكرامتها، واستعادة لسيناء، ودفاعا عن كرامة العرب بإزالة آثار العدوان، والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة والعودة إلى حدود 1967.
ثم وقعت مصر جريحة مثقلة بالجراح منذ أن انقلبت الثورة على نفسها من داخلها وبنفس الرجال بإعلان أن حرب أكتوبر 1973 آخر الحروب ومازالت الأراضي العربية محتلة بما في ذلك معظم سيناء، وأن أميركا بيدها 99% من أوراق اللعبة في الصراع العربي- الإسرائيلي. وغيرت الحليف من الشرق إلى الغرب، ومن الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي إلى الولايات المتحدة والمعسكر الرأسمالي. وأصدرت قوانين الاستثمار في 1975 لتحول الخيار الاشتراكي إلى الخيار الرأسمالي. وبعد مظاهرات يناير 1977، تمت زيارة القدس في نوفمبر من العام نفسه لإيجاد أحلاف خارجية للنظام، إسرائيل بعد أميركا. ثم عقدت كامب ديفيد في 1978 ثم معاهدة السلام في 1979. وخرجت مصر من المعركة بصلحها المنفرد لاسترداد سيناء منزوعة السلاح ومازالت الجولان والضفة الغربية والقدس محتلة. وقامت انتفاضة الحجارة الأولى ثم انتفاضة الأقصى الثانية بالسلاح ومصر تشجب وتندد وتعمل للسلام، الخيار الاستراتيجي لها وللعرب.
ونجحت محاولات تهميش مصر الجريحة. وقد كان ذلك أمل الكيان الصهيوني القديم والإمبراطورية الأميركية الجديدة. وكان الطيار الإسرائيلي الأسير في حرب أكتوبر 1973 يفيق من إغماءته ويسأل:"هل الحرب مازالت مستمرة؟". وعندما يقال له "نعم" يغشى عليه من جديد ثم يفيق ويسأل:"وهل مصر مازالت تحارب؟" فيقال له "نعم" فيغمى عليه ثانية ولا يفيق. ونقصها الخيال السياسي في الجمهورية الثالثة بعد اغتيال رئيس الجمهورية الثانية. وتربت لدى قادتها عقدة 1967 واحتمال الهزيمة مرة ثانية لو تجرأت على مساندة العرب، ونصرة الانتفاضة، والدخول في معركة ثانية، وظروف العالم قد تغيرت. فلم يعد الاتحاد السوفيتي ولا المعسكر الاشتراكي قائما بعد أن انتهى عصر الاستقطاب. فمن يمد مصر بالسلاح إن هي دخلت الحرب؟ فليس المهم دخول الحرب بل الاستمرار فيها. وليس المهم البداية بالحرب بل الانتصار فيها حتى لا يضيع انتصار أكتوبر 1973. وازدادت تبعية مصر للخارج، وأرادت أن تقوم بدور الكيان الصهيوني كصديق لأميركا أو حليف، تماثلها في المعونات. وازداد الفساد في الداخل وغابت التعددية السياسية، وانهارت الخدمات، ونظم التعليم، وزاد معدل البطالة والفقر. وأصبح النظام محاصراً بين المطرقة والسندان، مطرقة التبعية للخارج وسندان الهبّات الشعبية في الداخل. وفي هذه اللحظة التاريخية، ومصر فيها مثخنة بالجراح يريد جناحاها الشرقي والغربي في الخليج الهادر والمحيط الثائر وراثتها، وهي لم تحتضر بعد. يلعبون دورها في قيادة الوطن العربي في النظام العالمي الجديد ذي القطب الواحد وكأن الجناح يستطيع القيام بدور القلب.
بدأ الجناح الشرقي ممثلا في أصغر دولة فيه. وأصبح صوتها أعلى صوتا من خلال سياساتها، واقتراحاتها، ومزايداتها، وإعلامها، وقنواتها الفضائية التي تستقطب المفكرين العرب. وتطرح القضايا العربية والموضوعات الأكثر حساسية دون التعرض لأوضاع