ليس من البعيد عن تصرفات العقلاء الوقوف قبل الخروج من الدار أمام مرآة صماء ليسألها: هل أخرج وأنا على هذه الحالة؟ أم أنني بحاجة إلى إصلاح بعض شأني؟. لكن العقلاء قبل هذا التصرف متأكدون أن المرآة التي يتعاملون معها طبيعية وعادلة وموضوعية. فلو كانت المرآة مقعرة أو محدبة فإنها لن تعكس لنا الصورة الحقيقية للإنسان، بل تظهره في حال قد تسره. وقف شخص سمين جدا أمام مرآة خادعة فصورته وهو نحيل، فانبسط من الهيئة التي هو عليها وخرج على الناس في أحسن حال، معتقدا أنه عدل وزنه إلى الصورة المطلوبة، وأضحى كلما مرّ به عاقل وحذره من أمراض السمنة وخطورتها سخر منه واتهمه بالعته والجنون أو أنه يستخدم معايير لا تتناسب معه. وربما شكك في ولائه أو خلفيته العلمية والمعرفية وهكذا مرت الأيام والسنون وإذا بصاحب المرآة الخادعة يكتشف كذبة عمره وهي الحقيقة التي كان هاربا منها طوال الوقت فلم يكن يعرف حقيقة من هو، ومن ثم لم ينجح في تحقيق ما يريد.
هذا المثل الساخر يعيشه بعض الأفراد والمؤسسات، وتمر به بعض الدول والحكومات. دعونا مثلا نرى حال الديمقراطية المزورة في بعض الدول العربية، حيث يذهب الخلق إلى صناديق الاقتراع السري، في بلد الأحزاب المرخصة فيه هي أحزاب الحكومة، ويبدأ الناس في التصويت، وتكون المفاجأة كبيرة جدا حيث يفوز الحزب الحاكم بالأغلبية المطلقة. وفي بعض الجمهوريات تم ابتداع حزب للمعارضة هو حكومي أشد من أحزاب الحكومة، الهدف منه الخروج إلى العالم بوجه حضاري مزور نقول به للناس عندنا ديمقراطية والدليل على ذلك أن هناك أحزاباً معارضة. ويبدأ البرلمان العربي المنتخب بكامل الحرية أول اجتماعاته موافقا على كل ما تقترحه الحكومة مباركا كل الخطط والبرامج مصفقا لكل الخطابات مصادقا على كل التغيرات التي رآها أو التي هي في خاطر الحكومة. بل وجد في العالم العربي برلمانات هي حكومية أشد من الحكومة نفسها. لذلك عندما تعرض الحكومة برامجها لا تنال هذه البرامج حقها من الدراسة والتمحيص ومن هنا فإن المرآة المستخدمة لهذه الحكومة، مرآة خادعة حالها كحال صاحبنا السمين.
ولو تجاوزنا الحكومات العربية إلى المؤسسات لرأينا الصورة نفسها مكررة. فكثيرة هي المؤسسات والشركات والدوائر التي تعين لجاناً استشارية، الأصل فيها إعطاء فكرة لمدير المؤسسة عما هو حاصل وما سيجري، لكن سوء اختيار أعضاء هذه اللجان يجعلها تعكس صورة غير حقيقية، ومزورة في كثير من الأوقات يرضي بها المدير غروره ويبسط سلطانه، ومن يهتم بمصلحة المؤسسة في عالم رفع البعض فيه شعار:
إذا هبت رياحك فاغتنمها فلكل ثائرة سكون
وعلى المستوى الفردي نمارس الفكرة نفسها. هلا نظرت إلى من حولك من الأصدقاء للبحث عن المرايا الحقيقية التي تعطيك صورة واضحة لخط سيرك؟. فالعرب قديما كانت تقول "صديقك من صدقك لا من صدقك". لكن من منا اليوم يبحث عن الصديق الصادق الذي إذا رآك انحرفت عن الحق قومك. أو زلت بك قدم نصحك. كثير من الناس يبحث عن الصديق الذي يظهر محاسنه، بل قد يصطنعها لك وهي غير موجودة كي تقر عينك ولا تحزن ولتعلم أن حياتك تمضي على خير حال وهي تنقلب من وبال إلى خبال.
الدول الناجحة والحكومات الرشيدة والمؤسسات الفاعلة والأفراد المميزون يسعون لإيجاد مرايا صادقة من حولهم تخبرهم عن حقيقة حالهم وتوجههم إذا انحرفوا وتقوِّمهم إذا ضلوا. فالبرلمانات الحقيقية أفضل للحكومات من الديمقراطية المزورة، والمجالس الاستشارية الصادقة تنجح بها المؤسسات، وصديق صادق واحد خير من العشرات المجاملين. كل ما سبق مرتبط بقرار شجاع تتخذه الحكومات والمؤسسات والأفراد. هذا القرار هو حسن الاختيار.