عادةً ما تلجأ القوى الاستعمارية إلى استخدام ذرائع "أخلاقية" أو "مثالية" تبرر بها إرسال جنودها في مهمات عسكرية خارجية لفرض الهيمنة الاستعمارية، من قبيل "بث نور الحضارة والتمدن"، أو "نشر الديمقراطية"، أو "القضاء على التخلف"، ومن ثم تصبح مشاركة الجندي في الغزو وقهر الشعوب الأخرى جزءاً من "عبء الرجل الأبيض" ومن "الرسالة الحضارية" السامية التي قُدر له أن يحمل لواءها.
إلا إن مثل هذه الذرائع والأكاذيب لا تصمد كثيراً أمام حقائق الواقع، وخاصةً إذا ما قُوبل الغزو بمقاومة من السكان الأصليين. وسرعان ما يكتشف الجنود الغزاة أنهم مجرد أدوات لتحقيق الأطماع التوسعية ونهب ثروات الشعوب الأخرى وقمع تطلعاتها المشروعة في الحرية والاستقلال، ومن ثم يتجه عدد من هؤلاء الجنود إلى الفرار من الخدمة العسكرية، أو التمرد على ما يُكلفون به من أعمال وحشية، بل ويقع بعضهم ضحايا الأمراض النفسية والعقلية بشتى أنواعها.
ويتناول مقال كتبه إيتان رابين (صحيفة معاريف، 5 نوفمبر 2002) حالات عدد من الجنود الإسرائيليين الذين خدموا في الضفة الغربية لمدة ثلاث سنوات واشتركوا في التصدي لانتفاضة الشعب الفلسطيني، مما يعني "التعامل" مع المدنيين الفلسطينيين (أي البطش بهم). ويبين المقال أن عدداً كبيراً من الجنود تعرضوا لأزمات نفسية حادة بعد تسريحهم أو انتهاء مدة خدمتهم هناك، وبدأوا يشعرون بتأنيب الضمير وبالندم على ما اقترفته أيديهم في حق مواطنين أبرياء، كما يشير إلى أن هذه الظاهرة وصلت لأبعاد "مخيفة"، وأن بعض الجنود الذين غادروا الكيان الصهيوني أملاً في التخفيف من حدة التوتر قد اتجهوا إلى إدمان المخدرات. ويتحدث آباء بعض الجنود المسرحين عن أبنائهم الذين يقضون وقتهم كله داخل المنزل يحدقون في الجدران ولا يتحدثون مع أحد ولا يرغبون في مغادرة أماكنهم.
وفي محاولة لمواجهة هذه الظاهرة، أسس أحد الضباط السابقين مركزاً يُسمى "كفار إيزون" (والاسم يعني حرفياً "قرية التوازن"). ويقول مدير المركز إن عشرات من الجنود الذين وفدوا إلى المركز سبق أن توجهوا إلى بلدان الشرق الأدنى وأدمنوا المخدرات، وأن عشرات آخرين حاولوا الانتحار أو إيذاء أنفسهم، وإن الجنود يأتون إلى المركز وينهمرون في البكاء ويلقون باللوم على أنفسهم بسبب ما ألحقوه بالفلسطينيين من بطش وقسوة وإذلال ووحشية. ووصفهم مدير المركز بأنهم "محطمون تماماً، يعانون من حالة عدم اكتراث بما حولهم".
ويسرد المقال بعضاً من حكايات الجنود المسرحين، باعتبارها نموذجاً ممثلاً لحالات كثيرين آخرين. وإحدى هذه الحكايات عن ضابط سُرح من الخدمة، ولكنه لم يستطع الإفلات من الكوابيس المروعة التي كانت تطارده يومياً، فسافر إلى تايلند أملاً في الترويح عن نفسه، ولكنه على العكس عاد وقد ساءت حالته وأُضيف إليها إدمان الهيروين والكوكايين. وأدخله والداه مصحة للأمراض النفسية وبقيا إلى جواره، ولكن بعد عدة أيام وجدوه ميتاً. وهناك قصة جندي آخر ذهب إلى أميركا الجنوبية بعد تسريحه، وتعاطى مخدراً يُسمى "سان بدور" (يُصنع من الصبار)، وبعد ذلك اختبأ تحت المائدة لمدة 12 ساعة وهو يردد أنه سقط في كمين، وأنه في هذه الحالة لا يستطيع أن يأكل أو يشرب. وهناك حكاية أخرى عن جندي ذهب إلى الهند بعد انتهاء خدمته في الضفة الغربية، فبدأ يتعاطى المخدر المعروف باسم "عقار الهلوسة" LSD، وذهب إلى كهف للتأمل، ولكن صور الانتفاضة لم تفارق مخيلته حتى في هذا المكان النائي، فكان يفزع وهو يتخيل أن مقاتلي "حركة حماس" و"حركة الجهاد" يطاردونه. ويروي ضابط آخر قصته قائلاً: "خدمت في الضفة الغربية لمدة ثلاث سنوات، وقتلت عشرات الإرهابيين، ورأيت بعض أصدقائي وهم يلقون حتفهم، وقد أصبحت سريع الغضب لأتفه الأسباب، ولا أرى أملاً في المستقبل".
ومن الحالات الدالة حالة بعض الجنود الذين شاركوا في اغتيال أحد قادة المقاومة الفلسطينية، وغمرتهم النشوة بعد تحقيق هذا "الإنجاز"، فأخذوا يلتقطون صوراً مع جثة الشهيد، بل وأخذ بعضهم يمسك بقطع من جسده الذي مزقته القذائف. وبعد عدة أيام، اكتشف ضابط العمليات هذه الصور ومزقها، وهنا بدأ بعض الجنود يدركون مدى التشوه النفسي الذي حل بهم من جراء الأعمال الوحشية التي يرتكبونها. وذهب اثنان منهم إلى إحدى الحفلات وتناولا كمية كبيرة من المخدرات، وعادا إلى الوحدة وهما مخدران تماماً. واضطر قائد الفرقة إلى تجريدهما من سلاحهما وحبسهما، ولكن أحدهما حاول الانتحار، ثم راح يضحك بشكل هستيري ويصرخ "محمد... محمد...". ويعلق كاتب المقال على ذلك بقوله: "لقد جُن تماماً. لقد قضت عليه الانتفاضة".
ويتناول مقال آخر (صحيفة الجارديان البريطانية، 2 ديسمبر 2003) أثر الانتفاضة على الحياة اليومية للمستوطنين الصهاينة، ويبدأ بكلمات مستوطن صهيوني: الساعة الآن السابعة والنصف مساءً، وابنتي لم تعد إلى المنزل بعد. هي تبلغ من العمر 21 عاماً، وتعمل في إحدى الوظائف، ومستقلة اقتصادياً عن أبويها، فلماذا إذن ينتابني القلق؟ أل