يتصدى هذا الكتاب لمناقشة قضيتين رئيسيتين سيطرتا على دراسة التاريخ البريطاني المعاصر منذ عام 1945 وحتى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية: اضمحلال المملكة البريطانية، والأثر السلبي للنفوذ الأميركي عليها. فعلى الصعيد السياسي، يهتم الكتاب بمناقشة ما زعم الآخرون، أنه سعي من جانب الإمبراطورية العجوز- كما يسمونها- للتشبث بنفوذ سياسي دولي، لا يعادله إلا التطلع نحو اللحاق بالوهم والسراب. أما في الجانب الاقتصادي، فالمثار للنقاش هو الجهد المبذول لعكس اتجاه ضمور واضمحلال اقتصادي يعتقد البعض أنه واصل مسيرة انحداره منذ منتصف عقد الستينيات وإلى اليوم. فمن ذا يقول النقيض، ومن ذا يسبح عكس التيار الجارف، ويعلو صوته في وجوه الكثيرين بأن ما يقال عن اضمحلال للمملكة ليس سوى إفك وهراء أو أسطورة كما أسماها المؤلف في عنوان كتابه "أسطورة الاضمحلال"؟ إنه "جورج برنشتاين". ولما كان الشيء بالشيء يذكر، فإن أفضل وصف كرس لهذه الأسطورة، هو ما ورد في رواية الكاتبة البريطانية "مارجريت درابيل" المعنونة "عصر الجليد" حيث جاء على لسان بطلتها "أليسون موري"، وصف لإنجلترا على أنها: غدت مجرد أسد عجوز فاقد القوى، واهن وضعيف، إلى درجة أن بوسع كل من أراد أن يمزح بذيله، فعل ما يريد، دون أن ترتعش له فريصة واحدة! فهل تنطبق الصورة الأدبية هذه على الواقع؟ وإلى أي مدى تم التعبير عن الصورة نفسها في مجال الدراسات والبحوث التاريخية التي استلهمت أسطورة الأسد العجوز هذه؟
على الصعيد السياسي، وعلى عكس أسطورة الاضمحلال السائدة بدرجة كبيرة، يتفاخر المنتمون والمؤيدون للحزب الليبرالي، بأن القطاع الخدمي الحكومي البريطاني، هو محط أنظار وحسد دول العالم كلها. بينما يرى المحافظون أن بريطانيا تفوق جاراتها الأوروبيات سخاء وكرما. لذا فقد ظلت بريطانيا دائما قبلة الزوار من الباحثين عن دول الرعاية الاجتماعية، القادمين من الدول الأقل حظا في هذه الجوانب بالذات. وكان من المفترض أن تكون هذه الصورة على عكس تلك تماما، إذ ليس للكثير من الدول الأوروبية المجاورة، ما لدى بريطانيا من التزامات خارجية وأسلحة نووية باهظة التكلفة والأعباء. ومع ذلك فإنها لم تتفوق على المملكة من ناحية سخائها وكرمها. بل إن في وسع تلك الدول أن تبني دولة رعاية اجتماعية أفضل مما هو عليه حالها في بريطانيا.
ولكن الذي حدث هو أن التفوق في هذا الجانب كان من نصيب المملكة المتحدة، وليس بقية الدول الأوروبية الأخرى المجاورة. فما السبب... وكيف لنا أن نفهم ظواهر تاريخية كهذه؟ هناك مفارقة أخرى لابد من الوقوف عندها كذلك. وتتعلق هذه بأن بقية الدول الأوروبية المجاورة، ترمي المملكة بتهمة الشح والبخل، بمقاييس ومعايير تلك الدول. وإن كانت ثمة مقارنة ستجرى في هذا الشأن، فإنها لن تشمل بأي حال من الأحوال، دولا مثل الولايات المتحدة الأميركية واليابان، بحكم الاختلاف الثقافي والاقتصادي الذي يفصل ما بين هاتين الدولتين، والدول الأوروبية عموما. وعلى أية حال، فإن حقائق التاريخ تؤكد بما لا يدع مجالا لأدنى شك أو مغالطات، أن بريطانيا- خلافا للدول الأوروبية الأخرى- هي الأكثر ثقلا بأعباء وتبعات الإمبراطورية والمسؤوليات والالتزامات تجاه مستعمراتها السابقة الواسعة والمترامية الأطراف على امتداد العالم بأسره تقريبا. ونتيجة لذلك الإرث التاريخي، فهي الأكثر معاناة وتحملا لميزانيات الدفاع الحربي المتضخمة والكبيرة- بما في ذلك ترسانتها من الأسلحة النووية- خلال حقب الحرب الباردة وما بعدها. أضف إلى ذلك كله حقيقة تاريخية اقتصادية أخرى، تتلخص في أن بريطانيا ظلت على اعتمادها المستمر على عملتها من الجنيه الإسترليني كعملة لاحتياطيها النقدي، على رغم الضغوط والانكماشات الحادة التي مر بها الجنيه، في فترات ومراحل مختلفة من تاريخ المملكة المعاصر. ولما كانت كل هذه حقائق تاريخية مثبتة، فإنه لابد من أن يكون تحت ذلك الجليد الذي وصف بالموات في الرواية آنفة الذكر، كائن ما، يتحرك ويتنفس وقادر على النمو والاستمرار.
ليس هذا فحسب، بل إن التاريخ المعاصر للمملكة يثبت أنها صمدت واستطاعت الوقوف أمام العدوان النازي الفاشي بمفردها، خلال الحرب العالمية الثانية. وبسبب ذلك الصمود، فقد نالت لقب "الدولة العظمى" عن جدارة لا يطالها الشك. طبيعي إذاً، أن تترتب عن هذا اللقب حزمة من الالتزامات الدولية التي تقع على عاتق الدول العظمى عادة. وقد أدى هذا على الصعيد الداخلي، إلى أن تعيد المملكة بناء اقتصادها، وتحسين مستوى معيشة مواطنيها، على نحو أبطأ مما هو مألوف ومتوقع في الظروف العادية، التي لا تتدخل فيها الحروب كعامل كابح للنمو الاقتصادي.
وحين يتناول المؤلف ظاهرة "الليبرالية الجديدة"، فإنه يكاد يكون صدى آخر للنظرية "التاتشرية"- نسبة إلى رئيسة الوزراء السابقة "مارجريت تاتشر"- بمفرداتها وتعابيرها نفسها. المهم في النظرية الليبرالية، أساسها الاقتصادي الذي تقوم عليه، وهو الذي يفسر الانتعاش والنمو اللذين