لم تعد تنمية الموارد البشرية أمرا أو قضية من القضايا الثانوية بالنسبة لتطور الدول والمؤسسات وترقيتهما، بل أصبحت مفتاح التقدم الاقتصادي وشرطا لتكوين الثروة وبناء الأمم. فالتحول الذي يشهده العالم نحو نظام اقتصادي جديد قائم على المعرفة والإبداع الإنسانيين، جعل تنمية الموارد البشرية عاملا أساسيا في تنمية وتعزيز القدرات الإنتاجية والتنافسية للشعوب والدول والمؤسسات. وتلك العلاقة الدقيقة هي الموضوع الذي يهتم بمعالجته كتاب "تنمية الموارد البشرية في اقتصاد مبني على المعرفة" والذي نعرض ملخصا عنه في الأسطر التالية. فقد ضم الكتاب بين دفتيه بحوثاً أعدها مفكرون متميزون وخبراء متخصصون وألقت معا الضوء، في 400 صفحة هي حجم الكتاب، على مفهوم الاقتصاد المبني على المعرفة ومحدداته الأساسية، وأثره على برامج وسياسات الموارد البشرية وطبيعة القوى العاملة في المستقبل. وركزت بحوث الكتاب على إيجاد طرق لبناء رأس المال البشري في اقتصاد مبني على المعرفة، وتقييم تكاليف ومنافع الاستثمار في رأس المال البشري، واستقصاء نماذج هيكلية فاعلة لتحقيق التميز التنظيمي، وطرح نماذج وسياسات جديدة في ميادين التعليم وتخطيط القوى العاملة وتدريبها.
ويوضح الكتاب في مستهله مفهوم الاقتصاد المبني على المعرفة قائلا إنه يمثل مرحلة النضج والتطور لاقتصاد المعلومات الذي أخذ يتحول إلى اقتصاد مبني على المعرفة منذ العقد الماضي، ويركز النمط الاقتصادي الأخير على قيمة القدرات الفكرية لدى الفرد وينظر إلى الإنسان بوصفه منتجا للمعرفة. فقد أصبحت المعرفة تشكل مصدراً لثروة يمكن أن تكون أثمن بكثير من الأشكال التقليدية للثروة، وهي الأرض والعمل ورأس المال، كما ظهر مفهوم ما يطلق عليه "العمال المعرفيون" الذين يؤدون مهمة حيوية لتحقيق النجاح لمؤسسة توفرت لها بيئة دينامية وقابلة للتغير. ويشرح الكتاب خصائص الأسواق المبنية على المعرفة والتي تتميز، خلافا للأسواق التقليدية، بغياب التمايز بين المشتري والبائع، في حين تحتوي عملية التبادل التي تتم بين طرفين على جوانب اقتصادية ومعلوماتية وشعورية شتى.
وفي تناوله لموضوع الحكومات والاستراتيجيات القومية لتنمية الموارد البشرية، يشدد الكتاب في هذا الخصوص على أن هناك خطا فاصلا متسعا بين الدول التي استغلت تقنية المعلومات ورأس المال الفكري بفاعلية وتلك التي أخفقت في ربط النمو الاقتصادي بعجلة التنمية البشرية، إلا أن الدول التي تسعى إلى بناء اقتصادات قائمة على المعرفة بحاجة إلى وضع هياكل وربطها ضمن شبكات لتحقيق إمكاناتها الاقتصادية والبشرية الكاملة.
وحول واقع دول مجلس التعاون الخليجي التي حققت تحولا اقتصاديا واجتماعيا معتبرا، وذلك من خلال توظيف الموارد الطبيعية الوفيرة وتفعيلها، يلاحظ الكتاب أنه لضمان أن يكون الانتقال إلى الاقتصاد المبني على المعرفة فعالا، يتطلب ذلك جهودا كبرى لتطوير وتفعيل الموارد البشرية والمحلية وبناء رأس مال بشري وفكري فعال ومبدع. لذلك يناقش الكتاب أهم التحديات التي تواجه نظم التعليم في منطقة الخليج العربي، وكيفية تطوير هذه النظم لكي تتوافق مع متطلبات الاقتصاد المبني على المعرفة. ومن ذلك يصل إلى نتيجة أساسية وهي أن حكومات البلدان الخليجية تتحمل، كلا على حدة، مسؤولية صياغة سياسة وطنية للموارد البشرية لتشجيع القطاعات الاقتصادية ودعمها، لكن دور الحكومة ينبغي أن يتخطى مجرد وضع السياسات الخاصة بالموارد البشرية، فالتخطيط والتطوير الفعالان للقوى العاملة يعدان أمرا أساسيا وملحا، غير أنه لا يمكن التنبؤ على نحو يقيني باحتياجات الدول الخليجية من القوى العاملة.
ويتطرق الكتاب إلى أهمية بناء رأس مال بشري وفكري للشركات وهيكليتها، إذ تستفيد المؤسسة، بلا شك، من العمال فائقي المهارة، وذلك رغم النقاش الكثيف الذي يدور حول قيمة التعلم داخل مؤسسة من المؤسسات. وفي هذا الخصوص يلفت الكتاب إلى أن الاستثمار يسهم في تحسين قدرة الموظفين على التعامل بفاعلية مع التغيرات والتزامهم بذلك، فتحويل المعرفة إلى منتج يتمتع بأهمية فائقة، يتوقف عليه بصورة رئيسية نجاح المؤسسة أو إخفاقها.
ويناقش الكتاب ما يطلق عليه "الفجوة بين المعرفة والعمل"، قائلا إن تلك الفجوة تظل تحديا إداريا مهما في النظام الاقتصادي الجديد؛ فالمعرفة بوصفها موردا من الموارد ليست متاحة في متناول قيادة الشركة وإدارتها بل هي ملك للعامل. كما يناقش أيضا النظام الهرمي في بناء المؤسسة، قائلا إن فكرة القيادة التقليدية تفقد مبررها وتخرج عن سياقها إذا كانت أهداف النجاح تتطلب إقامة فريق مبدع يمكنه أداء وظائفه باستقلالية وكفاءة. فالمؤسسة الناجحة يجب أن يتوافر لها فريق عمل ملتزم يتمتع بالدينامية والإبداع، كذلك لابد لها أن تكون مؤسسة "تعليمية". فالثقافة المؤسساتية الصحيحة تؤدي إلى النجاح في الاقتصاد المبني على المعرفة، أما ثقافة المؤسسة فتعد نتاجا للسلوك الجماعي لأعضائها، وهي تسهم بدورها في صياغة شكل السلوك الفردي للأ