إن شهر حزيران (يونيو)من الأشهر التي لها علاقة بالشعور بالإحباط والهزيمة وفقدان الأمل لدى الإنسان القاطن في الوطن العربي من الخليج إلى المحيط. بل إنه أصبح رمزاً من رموز فشل النخب العربية سواء كانت تحمل الشعار الوطني أو القومي أو التقدمي أو شعار الإسلام السياسي. ومن هنا فإن ما يجري في العراق من جدل بعد استلام السلطة في الـ28 منه حسب ما تم الاتفاق عليه بين الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وبين مجلس الحكم الانتقالي، قد أثار الكثير من التساؤلات المشروعة، وخاصة أن الأوراق في العراق قد اختلطت بحيث أصبح العراق هو المختبر لمرحلة مهمة من مراحل التطور السياسي في الوطن العربي، وهي مرحلة ما بعد التصادم بين الدمى وصانعيها أو بعبارة أخرى، كما قيل في الشعر: أعلِّمه الرماية كل يوم.. فلما اشتد ساعدُه رماني.
ولعل أكثر مهاجمي السياسة الأميركية في الوقت الراهن هم من أولئك الذين يسبحون في التيار المحافظ، وهم في العلن ضد الولايات المتحدة الأميركية، ويمارسون الوطنية على الورق وبحبر مصنوع في الولايات المتحدة الأميركية، ولا يدركون أن هامش الحرية التي ينعمون بها هي جزء من مرحلة تحرير واحتلال العراق!
والكارثة بل إن الطامة الكبرى أنهم لا يدركون أن شعباً قد ذاق طعم الحرية بعد ما ذاق الهول - وآنئذ لم يكن أولئك الدعاة مع ذلك الشعب العظيم في محنته بل صفقوا للديكتاتور حامي الأمة وبطل القادسية الجديد- أقول، إن هذا الشعب الذي ذاق طعم الحرية لن يقبل بعد اليوم بأية ديكتاتورية من أي نوع كان سواء مارستها قوى الاحتلال أم بشر بها رأس السلطة الذي لم يجد ما يبشر به الشعب العراقي، سوى فرض الأحكام العرفية التي تكتوي بنارها الشعوب العربية بحجج وتبريرات شتى، أو حتى أولئك الذين مازالوا يحلمون بعودة حكم المقابر الجماعية، وعلى رأسهم الذين يدَّعون أنهم حماة الإسلام ويعمدون دعواتهم بالقتل والدماء من الجزائر مروراً بالسعودية واليمن والعراق وغيرها من الدول العربية. إن شعب العراق يريد حرية يصنعها بنفسه.
لعل البعض لا يدرك أن الأمة التي مرت بتلك "الحزيرانيات" الحزينة قادرة على أن تحمل رؤية فيها الكثير من التفاؤل وخاصة أن ذلك المارد قد تحرر من القيد، وهو قادر في مرحلة الحرية أن يختار الطريق الذي يؤدي إلى تعزيز كرامته وحريته، ولن ينخدع من جديد بالمرتزقة الجدد، أو الطائفيين الجدد سواء كانوا من الجيران أو أتباعهم. لقد تعلمت الشعوب العربية أن التحكم بها من خلال الثالوث المحرم، قد انتهى منذ سقوط آخر الأقنعة، وأن البحث عن الخبز والحرية لا يمكن تحقيقه إلا بتكاتف كل الأيادي الديمقراطية آياً كان انتماؤها الطائفي أو العرقي أو الأيديولوجي. إن الحياة لا تميز بين هؤلاء، وإن الأعداء هم الذين يزرعون تلك الفوارق والخصومات والنزاعات وخاصة في المراحل الحاسمة. وتبقى الحقيقة واحدة، وهي أن الحياة ستستمر سواء وضعت العراقيل أم لا؟!
في هذه الأيام المهمة من عمر العراق الجديد، سيبرز من يحاول أن يغرس اليأس والإحباط في نفوس الشعب العراقي، الباحث عن الحياة، ويطرح العديد من التساؤلات في محاولة لتشويه المشهد العراقي، والذي هو بداية لمرحلة جديدة، وخاصة أن الفترة الماضية قد كشفت أولئك الذين حاولوا استغلال الحالة العراقية لنيل الكثير من المكاسب على حساب مصلحة الشعب العراقي. ففي الحالات التي يصبح فيها المجتمع بلا سلطة أو قوانين، يحدث الكثير من المجازر والتجاوزات، بل تسود العبثية وهي قريبة من البعثية. حين ذاك تبرز كل التناقضات. إلا أن هذه مرحلة لن تطول أبدا، مهما تصور أن بالإمكان عرقلتها بهذه الطريقة أو تلك، سواء عبر عمليات التخريب والتدمير والقتل التي تقوم بها قوى متعددة الأهداف والمشارب، لم تعلن للشعب العراقي أي برامج للمستقبل الذي ينشده العراق، وبالدرجة الأولى موقفها: من الديمقراطية، وتبادل السلطة، ومؤسسات المجتمع المدني، التي أصبحت جميعها من الركائز التي لن يفرط بها الشعب العراقي.
قد يكون من السابق لأوانه الحديث عن العراق الديمقراطي،إلا أن إرادة عامة الشعب العراقي من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه والتي تبحث عن الحرية والخبز والأمان هي التي سوف تحدد من سيظل في أرض السواد، ومن سوف يشهد عودة حضارة الرافدين. التاريخ يؤكد أن الشعوب دائما تتحرر ممن يضطهدها. وكما يقول الشابي: إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. فلابد أن يستجيب القدر. وعندها سترتد القيود إلى من يريدها أن تكبل هذا الشعب الذي ينشد الحرية.