"الولايات المتحدة ليست قوة إمبريالية، ولا هي قوة استعمارية رغم امتلاكها قدرات مهولة تمكنها من أن تكون كذلك. وهي لم تمارس الاحتلال والاستعمار كما مارسته القوى الإمبراطورية المشابهة السابقة، مثل بريطانيا العظمى وفرنسا والبرتغال وأسبانيا". هذا الاعتقاد هو ما ترسخ في الذهنية الأميركية الجماعية، عبر عقود طويلة من السنين. وبناء على هذا الاعتقاد، فإن كل التدخلات الأميركية العسكرية الخارجية، والاعتداءات والاحتلالات، سواء في أميركا اللاتينية، أم الهند الصينية، أو فضاء المحيط الباسيفيكي لم يكن هدفها سوى نشر الحرية، أو وقف تقدم الشيوعية، أو دعم الديمقراطية. هذا الاعتقاد تعرض لنقض عدد من القراءات، كان أهمها في السنوات السابقة كتاب فريد زكريا (رئيس تحرير نيوزويك الحالي، وكان حينها مدير تحرير فصلية شؤون خارجية) حول التوسع الإمبريالي الأميركي. لاحق فريد كل العمليات الاحتلالية والتوسعية التي قامت بها الدولة "الناشئة" حديثاً، إلى الجنوب والشرق والشمال من حدودها، وكيف أخضعت القارة الأميركية الجنوبية إلى فضاء إمبريالي خاضع لها بالقوة العسكرية. بل وعمليا وجغرافياً لا تمثل الولايات التي تأسست منها وعليها الولايات المتحدة لحظة تأسيسها سوى 8% من مساحة الولايات المتحدة الحالية حالياً. يتم نقض تلك الأطروحة نفسها من زوايا جديدة في كتاب جديد عنوانه "الصرح: صعود وسقوط الإمبراطورية الأميركية"، من تأليف "نايل فيرغسون" المؤرخ البريطاني وأستاذ التاريخ العالمي في كلية "ستيرن" بجامعة نيويورك. بالنسبة لـ "فيرغسون" لم تكن الولايات المتحدة ومنذ نشأتها سوى إمبراطورية إمبريالية بالمعنى الحرفي للكلمة. لكن منطلق "فيرغسون" ليس ناقداً للفكرة الإمبراطورية، بل يرى فيها إيجابيات كثيرة لبقية دول العالم شريطة أن تكون هذه الإمبراطورية "ليبرالية" إضافة إلى ما لا مناص عنه من كونها إمبريالية. عملياً، يقع كتاب فيرغسون في سياق توجه أكاديمي جديد، غير واسع النطاق لحسن الحظ، يريد رد الاعتبار للفكرة الإمبريالية وللاستعمار الجديد بناء على فشل عشرات الدول في العالم في قيادة نفسها بنفسها.
عتب "فيرغسون" على الولايات المتحدة لأنها تقف في منتصف الطريق من دون استكمال مشروعها الإمبراطوري بجعله إمبراطورية ليبرالية. يقول فيرغسون:"... من حيث المبدأ، ليس لدي أي اعتراض على قيام إمبراطورية أميركية. بل إن جزءاً من حجتي يقوم على أن أنحاء كثيرة من العالم يمكن أن تفيد من خضوعها لفترة من الحكم الأميركي. لكن ما يحتاجه العالم اليوم ليس هو أي شكل كان من أشكال الإمبراطورية. فالمطلوب هو إمبراطورية ليبرالية، أي ذلك النوع من الإمبراطوريات التي لا تكتفي بالتأكيد على التبادل الدولي الحر للسلع، واليد العاملة ورأس المال، وإنما تخلق، إلى جانب ذلك، الشروط التي لا يمكن بدونها للأسواق أن تؤدي وظائفها وهي: السلام، والنظام، وحكم القانون، والإدارة المنزهة عن الفساد، والسياسات النقدية والمالية المستقرة إضافة إلى توفيرها للمنشآت العمومية مثل البنية التحتية للمواصلات، والمستشفيات، والمدارس، التي لا يمكن لها أن تقوم بدونها". لكن "فيرغسون" في تحليله لا يعكس ذلك المفكر الليبرالي الذي يمكن الاستناد إلى "عدالة" آرائه وخلوها من الانحيازات. يكفي قراءة معالجته السطحية، إن لم نقل السخيفة، لبعض جوانب "الإرهاب الفلسطيني والدعم العربي له" خلال الخمسينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضي، وخلو تلك المعالجة من أية خلفية أو إطار يشير إلى أن هناك احتلالاً ظالماً وباطشاً قامت به دولة أنشئت على الغصب والقهر. كل ما يطالعه القارئ غير المختص هو رغبة فلسطينية- عربية في العنف وقتل المدنيين الإسرائيليين! ولا يقول لنا "فيرغسون" ما هو الحل الليبرالي العادل لقضية فلسطين الذي يقترحه مثلاً على الإمبراطورية الأميركية حتى يخفف من بشاعة وجهها الإمبريالي. لا تصمد تنظيرات "فيرغسون" الطوباوية أمام أي اختبار عملي عن طريق مساءلتها عن كيفية معالجة هذه المسألة أو تلك. لذلك، فإن الإمبراطورية الأميركية الليبرالية التي ينادي بها "فيرغسون" ليست سوى إمبراطورية جورج بوش التي ينتقدها.
أهمية كتاب "فيرغسون" تكمن في استعراضه التاريخي المثير للتطور الإمبريالي للإمبراطورية الأميركية، وتدخلاتها خلال القرنين الماضيين. وهو يشير إلى القدرات الاقتصادية والعسكرية الهائلة للولايات المتحدة. فقد كان للولايات المتحدة، قبل قيامها بإرسال القوات لغزو العراق، 752 منشأة عسكرية في أكثر من 130 دولة. وتعادل ميزانية وزارة الدفاع الأميركية مجموع ميزانيات الدفاع في الدول الـ12 أو الـ15 التي تليها، ويشكل الإنفاق العسكري في الولايات المتحدة من 40 إلى 45 في المئة من مجموع الإنفاق العسكري لكل دول العالم الـ189. ولدى الولايات المتحدة من الدبابات ما يفوق ما لدى أية دولة أخرى، إضافة إلى كونها الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك "الحاملات الفائقة" التي يبلغ عددها تسع حاملات وطائرات "الشبح