من "زبيبة والملك" فـ"القلعة الحصينة" ثم "رجال ومدينه" روايات لكاتبها، كانت هذه الروايات تنسب للرئيس العراقي المخلوع بعد أن أصبح أديباً، وها هو من جديد وفي سجنه يكتب روايته الرابعة. لكن العراق الجديد رواية جديدة محرك شخوصها وراسم أحداثها هذه المرة ليس صدام، هي رواية تستدعي أجواء "مئة عام من العزلة" لماركيز. خيالها واقع، وواقعها خرافة. لم يفرش فيها درب الاحتلال الأميركي أو التحرير حسب روايات أخرى بالورود، فسالت الدماء واهتزت الأرض بالأجساد الملغمة وتطايرت الجثث مع السيارات المفخخة. أصبح العراق معها ساحة تصفية الحسابات: بقايا بعثيين، وعابرين للجنة من على أرض دجلة والفرات. مرتزقة أم فدائيون، نفعيون أم مخلصون. بهم أصبح العراق ساحة لكل شيء، من المعقول واللامعقول.
بدأت فصول الرواية من فصلها الأخير. فقبل يومين من موعد تسليم السلطة المقرر أصلاً اليوم الثلاثين من يونيو، سُلمت السيادة للحكومة العراقية. ابتسامات متبادلة أمام وميض عدسات المصورين. احتفال هادئ بالمنطقة الخضراء في مناسبة تستدعي التصفيق والاحتفال، بدت كالعملية القيصرية في محاولة لتجنب موت الجنين من مضاعفات الولادة الطبيعية، فكانت الولادة قبل الموعد.
لم يكن الاحتفال مزخرفاً. فالرؤوس المتطايرة غطت على المشهد تماما ولم يعلم العراقيون بهذا الحدث التاريخي إلا بعد انتهاء الحفل، فالتأزم الأمني فرض شروطه القاسية على المحتفلين. قد يقال الكثير عن سيادة منقوصة، وعن بيادق باليد الأميركية، وعن قوات أميركية ستظل مرابطه بدعوة من حكومة هشة. فنقل "السيادة" لن يفضي إلى الاستقلال، أو هو سيفضي إلى نوع من "استقلال" مقيد إلى أبعد الحدود. غادر بريمر الحاكم المدني الأميركي غير مأسوفٍ عليه ووصل نيجروبونتي السفير الأميركي في العراق بعد قطيعة دبلوماسية استمرت 14 عاماً منذ الاحتلال العراقي للكويت. وهو سيحل بأكبر سفارة أميركية في العالم من المقرر أن يعمل فيها أكثر من ألف موظف وبوجود 140 ألف عسكري أميركي وبانتظار وصول 25 ألف عسكري ومئات المستشارين العسكريين والاستخباراتيين والفنيين، لتأسيس قلعة حصينة في العراق الجديد.
سيبقى الأمن فصلا مهما وسيبقى معضلة تواجه الحكومة العراقية الجديدة، وستدفع ثمن أخطاء الولايات المتحدة السابقة من حل الجيش إلى استعادة جنرالات البعث بعد تجربة الفلوجة، إلى العمل بقوانين الطوارئ التي قد تفرضها الحكومة العراقية في أماكن التوتر. الضغوط الأمنية الشديدة استدعت تهديدا صريحا ومباشرا من رئيس الوزراء العراقي السيد إياد علاوي في أول خطاب له بعد تسلم السلطة فتوعد من سماهم "المرتزقة" و"قوى الإرهاب" بضربهم وجلبهم إلى القضاء. وكذلك حذر الموالين لحزب البعث من الانضمام إلى "مرتزقة صدام" لقاء "أن يحموا أنفسهم وعوائلهم ويحصلوا على الوظائف". وأكد من جديد عزمه على التعاون مع الجيش السابق، قائلاً إن "الجيش هو جيش العراق وليس جيش صدام"، بداية قوية لحكومة عراقية شكك فيها قبل أن تمارس صلاحياتها.
الشرعية فصل سابق على الأمن والحكومة المؤقتة تبدو كمجلس الحكم المؤقت وستثار حولها نفس المقولات من حيث الافتقار إلى الشرعية. لكن الانتخابات المقرر عقدها يناير القادم ستكون الاختبار الحقيقي للحكومة العراقية المؤقتة. إن ثوب شرعية الوجوه العراقية أفضل من شرعية الاحتلال حتى لو تحول إلى قوات أممية، واستقرار العراق مطلب ملح وتسريع بناء المؤسسات الأمنية لابد من أن يترافق مع بناء مؤسسات المجتمع المدني، وانتهاء الاحتلال لم يعنِ تحرر القرار الوطني لكنه خطوة في الطريق.
بدأت الحكومة العراقية تمارس مهامها. لا تنتظر منها المعجزات لكن الحد الأدنى من طموحات الشعب العراقي. المطلوب المزيد من تأمين الخدمات الأساسية إلى مشاريع إعمار العراق، ودعم الجيران قبل الجميع مطلب ملح لمصلحة العراق ولمصلحة الاستقرار. العراق الجديد رواية لكاتبها، فلم يكتبها صدام ولا قوات الاحتلال الأميركية. هناك جديد تحت شمس العراق، فرواية العراق الجديد بدأت فصلها الأول.