تتسع دائرة الحوار الفكري بين جموع من المثقفين والكتّاب والمفكرين والفنانين في لبنان وسوريا، في هذه الأيام، حول "واقع الأمة". وجدير بالقول إن أولئك يتحدّرون من مواقع معرفية وإيديولوجية وسياسية متعددة، ففيهم القوميون والإسلاميون والماركسيون والليبراليون، فبالإضافة إلى أن مثل هذا اللقاء بين الفرقاء المذكورين يقدم أنموذجاً حياً وواعداً على صعيد الفكر العربي الراهن، فإن الحوار الذي يدور بينهم، هو كذلك، ذو أهمية ملحوظة. وفي هذه الحال، يمكن وضع اليد على إحدى خصائص الحوار المذكور، وهي كونه ذا أفق "استراتيجي" يتصدى لـ"الاستراتيجية" العربية الراهنة في ضوء محاولة استنباط "استراتيجية عربية مستقبلية". ومن ثم، فإن اللافت في ذلك يقوم على السعي للبحث في هذه "الاستراتيجية" برؤية استراتيجية.
ويمكن إتيان الحوار بين المثقفين والكتاب والمفكرين والفنانين المذكورين من مداخل متعددة، قد يمثل السؤال التالي واحداً منها: هل ما زالت الاستراتيجيا أو الاستراتيجيات العربية القائمة حتى الآن، صالحة لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية بتعقيداتها ومخاطرها؟ وسيكون مفهوماً إذا علمنا أن السلب هو الذي يحدد الإجابة على ذلك السؤال -على الأقل- في جُلّ أوساط الفرقاء الأربعة: لا،لا، لم تعد تلك الاستراتيجيات صالحة، ويجب - من ثم- النظر فيها نقدياً، على نحو من الأنحاء. وبصيغة أكثر ضبطاً، يتضح مما قُدم من مداخلات في المؤتمر التأسيسي لـ"حركة تحرر عربية ديمقراطية" انعقد في لبنان الشهر الماضي، وفي اللقاء الفكري الذي انعقد في بيروت منذ أسبوعين بمناسبة مرور أربعين عاماً على تأسيس "المجلس الثقافي للبنان الجنوبي" قدمنا فيه إسهاماً على الصعيد المذكور، أن الجميع كانوا - بدرجات متباينة- يرون ضرورة إحداث قطيعة مع تلك الاستراتيجيات.
ها هنا، في تلك الرؤية الداعية إلى القطيعة المذكورة، يتم فصل الموقف باتجاه حالتين اثنتين: أما الأولى منهما فتتحدد في القول بضرورة الاندراج في الاستراتيجيا العولمية الأميركية الراهنة، بعُجرها وبجرها، بحجة أن الخروج عنها وعليها أمر مستحيل، لحضورها الهائل والفاعل، أو بحجة أنها -أي الاستراتيجيا إياها- هي وحدها التي يمكن أن تخلّص العرب من الاستبداد والفساد. لكن الحالة الثانية تقوم على الرأي بأن إحداث القطيعة مع الاستراتيجيات العربية أمر غدا حاسماً وضرورياً في سبيل خلاص العرب، ولكن ليس في مقابل تبنّي الاستراتيجيا العولمية والاندراج فيها، وإنما باتجاه التأسيس لـ"استراتيجية جديدة" تكون قادرة على الاستجابة لمقتضيات المرحلة الراهنة عربياً وإقليمياً ودولياً. أما المحاور الكبرى، التي تظهر في هذا الحقل، فهي ثلاثة:
1- تغيير داخلي ديمقراطي وفق جدلية الواقع والممكنات، وعلى نحو يكون الشعب والنظام السياسي كلاهما وراء ذلك.
2- قراءة المشهد الدولي بل العالمي على نحو ذرائعي يتوافق مع مصالح العرب المشتركة، في حدودها الأولية، مع العلم أن هذا المشهد يفصح عن حقول عديدة يمكن توظيفها - بدراية وعقلانية ومرونة- في خدمة هؤلاء. 3- استخدام ما نصطلح عليه بـ"المماطلة التاريخية المفتوحة" المدعّمة من الداخل العربي المدعو إلى اتخاذ مسلك الحراك السياسي والاقتصادي، ومن الخارج الدولي والعالمي، في مواجهة المشروع الأميركي-الإسرائيلي الصهيوني، وربما في ضوء المبدأ السياسي المجرّب في حقول جيوسياسية متعددة والقائم على مقولة "إن إغضاب العدو أسهل من إرضائه" في مطالبه الجشعة المفتوحة.
وإذا كان القول بالرأي الثاني من القطيعة مع الاستراتيجية العربية المهيمنة حتى الآن لصالح استراتيجية عربية جديدة بحقولها الثلاثة المذكورة، قد هيمن في معظم أوساط المحاورين الذين أتينا على تحديدهم، إلا أنه لا يفرّط بكثير من الأوجه والزوايا والأبواب الإيجابية في تلك الاستراتيجية الأولى، بل يسعى إلى تبنيها ودمجها في البناء الجديد.
إنه حوار ساخن ومهم وقد يثمر مواقف مجدِّدة للفكر الاستراتيجي في الحياة العربية. وهو، إلى ذلك، يسهم في بلورة رؤية عربية استراتيجية تصب في حقل مشروع عربي نهضوي تنويري جديد. وهذا كله ذو أهمية خاصة على طريق الوصول إلى نتيجة ربما نعتبرها متوافقة مع الوضعية الدولية الراهنة، وهي أن دعاة إحداث قطيعة مع الاستراتيجية العربية التقليدية بهدف الاندراج في الاستراتيجيا العولمية الأميركية الراهنة تحت مسوِّغ أن الخروج عنها وعليها أمر مستحيل أو أنها هي، الآن، وحدها القادرة على تخليص العرب من الاستبداد والفساد، لا يأخذون في اعتبارهم أن عملية الاندراج المذكورة بمسوِّغيها الاثنين، لن تكون طريقاً إلى تحرير العرب وإصلاح حالهم. أما ما يمكن أن تقود إليه هذه العملية فهو إدخالهم في نفق مظلم طويل، يفقدون فيه ثالوث الوجود البشري، الكرامة والحرية والسيادة. وكما يتحدث بعض الكتاب الأوروبيين والعرب والأفريقيين، فإن الدخول في نفق المشروع الأميركي العولمي الإسرائيلي إنما هو خيار للعبودية وللخروج من التاريخ الفاعل والمث